تُحيل مشاهدة أفلامٍ متنوّعة عبر روابط ومواقع متخصّصة، رسمياً وقرصنة، بعرضها، إلى سؤال قراءة مؤلّفات وترجمات مختلفة عبر وسائط إلكترونية، مُقرصنة وغير مقرصنة أيضاً، إنْ تكن هناك وسائط غير مقرصنة في مجالٍ كهذا.
تجربة القراءة الإلكترونية مُثيرة لنقاشٍ يتناول، أساساً، مفهوم القراءة بحدّ ذاته، وعلاقة القارئ/القارئة بالنصّ المكتوب. التحوّلات، ومعظمها سلبيّ، التي يعيشها تحديداً العالم العربي اليوم، في مصائبه وانكساراته وهزائمه وأزماته، تفرض تحايلاً على واقع راهن، ما يُتيح للمنشور إلكترونياً "سطوة"، مُحبَّبة لكثيرين بشكلٍ أو بآخر. الحاجة إلى القراءة ـ رغم ندرتهما (الحاجة والقراءة) عربياً، معطوفة على رغبة واهتمامٍ (نادِرَين أيضاً)، في ظلّ أزمات مختلفة يُعانيها القرّاء/القارئات ـ تحرِّض على تجاوز "أصول" مُتعارف عليها في القراءة ومفهومها و"طقوسها"، كما يحلو للبعض قوله، تماماً كحال من يُصرّ، إلى الآن، على "طقوس" المُشاهدة الفيلمية.
أزمات عدّة يعيشها عربٌ كثيرون، غير حاضرة في الغرب، وللغرب وسائل تسمح بالحصول على ما يُراد قراءته، بأسعارٍ مقبولة. فهناك، أولاً، الطبعة الأصلية، ثم تبدأ طبعات شعبية، أرخص سعراً، بالصدور تباعاً. عربياً، هذا غير موجود، رغم أنّ دور نشر عربية تُصدر كتباً، مؤلّفة ومُترجمة (للترجمة مصائبها، كما لمعظم المؤلَّف، كتابة وتحريراً وطباعة)، لعلّها مُتاحة بأسعار مقبولة، لكنّها، بالتأكيد، غير قادرة على جذب قرّاء/قارئات بشكلٍ كبير.
يُشكِّل ثمن الكتاب أزمة فعلية، في عالمٍ عربي يشهد، عاماً تلو آخر، ارتفاعاً مُخيفاً في نسبة الفقر والأمّية، والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والثقافية. القلّة، الراغبة في كتابٍ مؤلَّف أو مُترجم، غير متمكّنة من بلوغ المنشود دائماً، فالأزمة - المُرافقة لأزمة سعر الكتاب - كامنة في غيابٍ شبه تام للتوزيع. كتبٌ، بعضها سينمائيّ، تصدر في مدنٍ مغاربيّة ومصرية، غير متوفّرة في مكتبات بيروت.
بهذا، تُصبح القراءة الإلكترونية مطلباً، لأنّ الكتاب الموزّع إلكترونياً، رسمياً (بعض المؤلّفين/المؤلّفات ينشر كتبه إلكترونياً رغبة منه في أنْ تُتَدَاول بوفرة) وغير رسمي (قرصنة، رغم أنّ القرصنة مُسيئة إلى حقوق كثيرة، كالتأليف والترجمة والبيع)، يتمكّن من تخطّي حواجز ورقابة وبيروقراطية، ولا تكلفة له. هذا من دون طرح سؤال أساسي أيضاً: أتكون الكتب كلّها، المنشورة إلكترونياً بشكل مُقرصن تحديداً، كاملة؛ أم أنّ هناك من يُقرِّر حذف فصلٍ أو جملة أو كلمة، وفقاً لـ"قناعاته" الثقافية والاجتماعية والدينية؟ مثلٌ على ذلك: نشر ترجمة عربية لـ"الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، إلكترونياً، بعد طعنه في نيويورك (12 أغسطس/آب 2022). والترجمة هذه، الركيكة والمتسرّعة، ناقصة، من دون سببٍ مُعلن لنقصٍ ينتقص من الرواية ومساراتها وشخصياتها، كانتقاص الترجمة والنشر الإلكتروني من حقوقٍ فكرية وتجارية.
قراءة كتاب منشور إلكترونياً، شرعياً أو قرصنة، شبيهة بمشاهدة فيلمٍ عبر مواقع غير شرعية البتّة. لكنّ الحاجة إلى المشاهدة/القراءة أقوى من أولوية احترام حقوق الملكية الفكرية، في زمنٍ عربي بائس، يندر أنْ يشعر العربي فيه باحترامٍ لكيانه البشري ولحقوقه الأساسية. لهذا نقاشٌ غير مُتاح هنا. فالمتاح هنا معني بالمشترك/المختلف بين القراءة والمشاهدة عبر وسائط مختلفة، شرعياً وقرصنة.
القراءة الإلكترونية مُتعِبة، بينما مُشاهدة الأفلام خارج إطارها المعروف (الصالات السينمائية) أفضل وأسلس، لأنّها تُتيح للمهتمّ/المهتمّة إمكانية التوقّف عند لقطة أو جملة أو تصرّف، وإعادة مشاهدتها أكثر من مرّة، لمزيدٍ من التفاعل والفهم والتواصل والتحليل، رغم أنّ لسلوك كهذا في المشاهدة تبعات سلبية، خاصة إنْ يحصل في المشاهدة الأولى. القراءة الإلكترونية مُتعبة، خاصة مع تضمّن النصّ حواشي وملاحظات، ما يُثير إرباكاً في متابعتها عبر شاشة صغيرة. هذا ينتفي وجوده مع اعتياد القراءة الإلكترونية، رغم أنّ قراءة المطبوع في كتابٍ تبقى، عند البعض على الأقل، أفضل وأكثر راحة ومتعة، كالمُشاهدة الفيلمية تماماً، التي يسمح بثّها الإلكتروني بالتخلّص من إزعاجٍ يُسببّه حضورٌ في الصالة، يتغاضى عن أبسط مفردات المُشاهدة فيها: الصمت المطلق.
هذه ملاحظات غير حاسمةٍ مسألة، تحتاج إلى نقاشٍ يبلغ الاقتصادي والتجاري والثقافي والتربوي. المُشاهدة الإلكترونية وسيلة لمتابعة بعض الحاصل في الإنتاج السينمائي، تُسهِّل على ناقدٍ مهنته واهتماماته، وتُتيح مساحة أكبر وأسرع وأسهل لمُشاهدة المطلوب. الغلاء، الفاحش أحياناً، في مدينة - يُصرّ البعض على اعتبارها ركناً أساسياً في صناعة الثقافة (بيروت)، وهذا يحتاج إلى نقاشٍ أعمق لتبيان الخلل الحاصل فيها - يحول (الغلاء الفاحش) دون تمكّن من شراء كتابٍ عربي دائماً، بينما الحصول على كتابٍ أجنبي يحتاج إلى ميزانية استثنائية. الأفلام المعروضة تجارياً في بعض صالات بيروت، ومعظمها (الصالات) شبه فارغٍ، تتطلّب، بدورها، مالاً، يصعب على كثيرين توفيره في عهد البؤس والإذلال. أمّا غير التجاري، فنادرٌ للغاية.
لذا، يُصبح النشر الإلكتروني المجّاني والمُشاهدة الفيلمية، المتوفّرة على مواقع مُقرصنة، أساسييّن في متابعة الحاصل في عالمي النشر والسينما. للمنصّات دورٌ فاعلٌ وإيجابي في مُشاهدة مطلوبة، لقاء اشتراكٍ شهري مقبول، مع أنّ بعض المعروض فيها غير مُتوفّر عربياً، وبعض المنصّات الأشهر في الغرب غير قابلٍ للمُشاهدة في دول عربية.
رغم إيجابيّات تُنتجها قراءة/مشاهدة إلكترونية، تزداد عزلة الفرد وانسحابه من حياة، يُفترض به أنْ يعيشها مع أناسٍ، في أمكنة خارج جدران المنزل. لكنْ، أتكون قراءة/مُشاهدة كهذه سبباً للعزلة والانسحاب؟ أمْ أنّ خارج الجدران يزداد وحشية وعنفاً وتوتّراً وارتباكات وخوفاً ومخاطر، ما يدفع إلى عزلةٍ وانسحابٍ؟ وهذا رغم أنّ العزلة والانسحاب إلى داخل المنزل غير كامِلَين، فالخارج مُصرّ، بوقاحةٍ، على التسلّل إلى الداخل، مُثيراً قلقاً واضطرابات.