يكشف الإصدار الجديد لكتاب "فلسطين في السينما"، للناقدين، اللبناني وليد شميط والفرنسي غي هينبل ("المؤسّسة العربية للدراسات والنشر"، بيروت، 2022، والناشر المشترك "فيلم لاب فلسطين")، بعد 44 عاماً على صدور طبعته الأولى، ملامح أساسية من نمط تفكير نقدي/صحافي في مسألة أساسية، تربط السينما بفلسطين، في مرحلة خصبة بالاشتغالات والتساؤلات والتحوّلات.
الإصدار الجديد يُذكِّر بمفاهيم قديمة، منبثقة من شغفٍ ثقافي وأخلاقي ومهنيّ بالسينما وفلسطين معاً، ومن قناعة بأهمية الصورة، المتحرّكة والفوتوغرافية، في توثيق نضالٍ ميدانيّ يواجه الاحتلال الإسرائيلي، ونضال بصري يُقدِّم للعالم بعض الرواية الفلسطينية في حقّ مسلوب، وأرض محتلّة، وشعبّ مسجون بين مقابر جماعية وفي مدنٍ منغلقة، وبلدٍ مسروق، وتاريخ يريده المحتلّ الإسرائيلي متوافقاً مع روايته فقط.
الكتاب، المُترجم بمعظمه من أصلٍ فرنسي للناقدين هينبل نفسه والتونسي خميّس الخياطي (الترجمة لشميط، مع إضافة مواد له فيه، تتمثّل بمقالات وحوارات)، وثيقة مكتوبة بلغة منبثقة من مرحلة الصراع، متعدّد الأشكال والأساليب، ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي (الاحتلال) يُجيِّر الوثيقة البصرية (وغيرها) لصالحه، وإنْ تُزوِّر الوثيقةُ وقائع وحقائق، يتعنّت المحتلّ في رفض انتشارها في العالم. لغة مصبوغة بمفردات النضال، المهيمن حينها (في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته تحديداً) على كلّ فعلٍ مُقاوِم، نضالاً وكتابةً وتصويراً واشتغالات.
مبادرة إعادة إصدار الكتاب، بالتزامن مع الدورة الـ9 (1 ـ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"أيام فلسطين السينمائية"، التي تُنظّمها "فيلم لاب فلسطين"، تدعو إلى استعادة تلك المرحلة، تذكيراً بها وبأحداثها وأفعالها وناسها، وتحرِّض، ضمناً، على مناقشة طرحها السينمائي، وثائقياً/تسجيلياً وروائياً، وعلى القراءة النقدية لمفرداتها وكيفية اشتغالاتها. فالنواة الأولى والأهمّ للكتاب، تتمثّل بسؤالين يطرحهما شميط وهينبل: "هل السينما الفلسطينية موجودة؟" و"ما هي؟". ورغم أنّ 45 عاماً تفصل الآن عن لحظة إصدار النصّ الأصلي للكتاب، و44 عاماً على ترجمته إلى العربية، يبدو السؤالان كأنّهما آنيّان، وإنْ بشكلٍ مختلفٍ تماماً، فالسينما الفلسطينية حاضرةٌ، منذ أعوامٍ مديدة، بكثافةٍ مائلةٍ، بالغالبية الساحقة من أفلامها، إلى جماليات وبهاءٍ في كيفية التقاط النبض الفردي، أساساً، للفلسطيني؛ و"فلسطين في السينما" لا تزال تُحرِّض على اشتغالاتٍ متنوّعة، بعضها مهمّ للغاية.
في مقدّمته للإصدار الجديد هذا، يكتب سليم البيك (روائي وناقد سينمائي فلسطيني) أنّ تلك السينما "موجودة عام صدور الكتاب، وأنّها لا تزال كذلك"، وإنْ تشهد تلك السينما "أكثر من أزمة"، بعد انقطاعها لفترةٍ تالية على خروج "منظّمة التحرير الفلسطينية"، وفلسطينيين/فلسطينيات، من بيروت، بعد أسابيع مريرة من حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت، في غزوه لبنان عام 1982. أما الإجابة على السؤال الثاني، فكامنةٌ في أنّ "امتداد الصناعة السينمائية الفلسطينية"، في النصف الأخير من القرن الفائت أو أكثر بقليل، "وتراكم الأفلام وتنوّع منابعها وتفاوت مقارباتها للقضية الفلسطينية ومرجعيات صنّاعها ومواقعهم"، هذا كلّه يمنح السؤال الثاني "طبيعةً في إجابته، أشبه بما كانته الثورة الفلسطينية، أي السياق الذي تأسّست ضمنه هذه السينما، وأشبه بما تكونه القضية الفلسطينية اليوم، في كونها فكرة حقّ وحقوق وحرية وحريات" (ص. 7 ـ 8).
المشارَكَات في الكتاب كثيرة. نقّاد ومخرجون/مخرجات يقرأون تلك السينما حينها بأساليب مختلفة، تنبثق من حساسياتهم وتفكيرهم وتأمّلاتهم واشتغالاتهم السينمائية الخاصة. بعض هؤلاء جامعٌ في سيرته المهنية بين النقد والإخراج، كنبيهة لطفي وقيس الزبيدي وهني سرور. آخرون وأخريات ينجزون أفلاماً تُناكف تسلّطاً وقهراً في بلدانهم، وتذهب إلى فلسطين، بلداً وشعباً وتاريخاً، لأنّها جزءٌ أساسيّ من وعي معرفي وثقافي وأخلاقي: رندة الشهال وعمر أميرالاي وبرهان علوية وجان ـ لوك غودار وفانيسا ريدغريف ورفيق حجار وقاسم حول وغيرهم. من النقاد، هناك حسان أبو غنيمة ويوسف شريف رزق الله ومصطفى درويش والطاهر شريعة.
بالإضافة إلى مقالات وحوارات، هناك ندوتان: "السينما والقضية الفلسطينية"، التي أدارها وحرّرها هاني حوراني (مجلة "شؤون فلسطينية"، العدد العاشر، يونيو/حزيران 1972)، و"السينما الفلسطينية" (بغداد 1978).
الكتاب مهمٌّ، عند صدوره الأول، ولحظة صدوره الثاني، مع أنّ السينما الفلسطينية، المُنتَجَة في الأعوام الـ20 الأخيرة على الأقلّ، مليئة بما يحثّ على ابتكار نصّ نقدي أو أكثر (دراسات، مقالات، نقاشات، حوارات، تحقيقات)، وهذا موجودٌ إلى حدّ ما، مع اختلافاتٍ في التحليل والسجال النقدي، يُرافق (النصّ النقدي) ابتكارات صنّاع أفلامها، صورة ومعاينة وسرداً وتقنيّاتٍ.