شابّة مُصابة باضطرابات نفسية، يُعالجها طبيبٌ نفسيّ بأسلوبٍ مختلفٍ عن المتداوَل في العلاج النفسيّ، فتتمكّن، بفضلهما (الطبيب وأسلوبه)، من التغلّب على اضطراباتها، إلى حدّ توقّفها عن تناول الأدوية. لها روايةٌ تكتبها بعد انتهاء علاجها، تستمدّ نصّها من أسلوب العلاج نفسه، إذْ يتجاوز الطبيب حدود المهنة، بإشراك الشابّة، أثناء العلاج، بما يعيشه من مآزق في حياته اليومية، طبيباً وزوجاً وأباً، ومن مشاعر وانفعالات.
ذات يوم، تتصل الشابّة بطبيبها، لتُخبره بانتحار صديقتها الحميمة. الصوت مرتبك. النبرة قلقة. الدموع عالقةٌ في عينيها. يدها، الحاملة سيجارة، ترتجف. جسدها يرتعش. يحاول الطبيب تهدئتها، ولو مؤقّتاً، لكنّه يُصرّ على لقائها في اليوم التالي، في جلسةٍ مفتوحة لها. ليلاً، يأتي شرطيان إلى منزله، فيُرافقهما إلى منزل الشابّة: "اسمكَ موجودٌ في هاتفها الخلوي بصفة الطبيب الذي يجب الاتصال به عند حدوث مكروهٍ لها"، يقول له ضابط الشرطة أمام جثّة الشابّة الملقاة على الأرض. أول تحديدٍ للوفاة يرتبط بالانتحار.
في اللحظة نفسها، يصل شابٌّ يُعرِّف عن نفسه بأنّه شقيقها. يغضب ويبكي ويضطرب ويصرخ. عندما يهدأ قليلاً، يتعرّف إلى الطبيب، فيتحدّثان عنها. ثم يأتي يومٌ جديد. قبل هذا كلّه، يُكشَف أنّ ابنة الطبيب المُراهِقة مطرودةٌ من مدرستها، بعد العثور عليها في المختبر أثناء تعاطيها الكوكايين. هناك مشكلة أساسية في المنزل العائلي، ستكون بداية انكشاف سلسلة من الانكسارات والصدامات الصامتة بين الأفراد الـ3، المُقيمين معاً في منزلٍ فخم: الطبيب وزوجته، وابنته من زوجةٍ سابقة.
هذا كلّه يُشكِّل مدخلاً إلى مسارٍ يكاد يكون متوقّعاً في أفلامٍ مشابهة. "كلُّ نَفَسٍ تأخذه" (2021، ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي: Every Breath You Take، وله عنوان آخر أيضاً: You Belong To Me)، لفوغن شتاين، غير مختلفٍ عن أفلام مرتبطة بعلم النفس/الطب النفسي، أو بتداعيات اضطرابات نفسية على عائلة وأفراد وبيئة حاضنة.
بعد انتحار دافْني فْلاغ (إميلي آلن ليند)، يظهر "شقيقها" جيمس (سام كْلافْلن) في الحياة اليومية لعائلة الطبيب النفسي فيليب كلارك (كايسي آفلك)، وزوجته غرايس واتسن (ميشيل موناغان)، وابنته لوسي (إنديا آيسْلي). دخوله تلك الحياة، المليئة بتشقّقاتٍ ونزاعات وانهيارات، يبدو تحريراً لغرايس ولوسي من بعض معاناتهما إزاء مسائل شخصية. فغرايس معطوبةٌ منذ مقتل ابنها إيفان (براندن ساندرلاند) في حادث سيارة، أثناء مرافقتها إياه إلى ملعب الـ"هوكي"؛ ولوسي ممزّقةٌ، فالمراهَقَة غير سهلةٍ، والتقوقع قاسٍ، والعزلة قاتلة، وأشباح الانفصال والموت والابتعاد، خاصة بينها وبين والدها، تُقيم فيها، فتنزع منها كلّ راحة وسكينة وتصالحٍ مع الذات.
دخول جيمس حياة العائلة دافعٌ إلى محاولة التحرّر من وطأة عيشٍ غير مُريح. معالجة هذه المحاولة عادية للغاية، والبدايات تشي بتوقّعات يسهل على المُشاهد التفكير بها. التصوير (مايكل مَريمان) يمنح الفيلم جماليةً وحيدة، يساهم التوليف (لورا جانينغز) في تفعيلها، تحديداً في صُنع تساوٍ بصريّ بين طبيعة خلّابة (غالبية المشاهد الخارجية مُصوّرة في فانكوفر الكندية)، رغم الشتاء شبه الدائم والغيوم الرمادية والسماء الملبّدة بها، وقسوة النفس البشرية وانهياراتها واضطراباتها وتمزّقاتها. تساو يقول نواة أساسية لنصٍّ (ديفيد موراي) يغوص في أعماق ذاتٍ وروح، كاشفاً ما فيهما من آلام واحتراقٍ ولوعة، من دون إضافة جديدٍ على المعلوم، نفسياً وسينمائياً واجتماعياً، في موضوعٍ كهذا.
جيمس غير مُكتفٍ بدخولٍ خَفرٍ إلى الحياة اليومية للعائلة، وإلى دواخل غرايس ولوسي، مستدرجاً إياهما إلى اعترافاتٍ تسبق السرير، والاعترافات تؤهّله لإكمال ما يبغي تحقيقه. يُرافق الدخول "الهادئ" اشتغالاً على تحطيم فيليب كلارك في مهنته، طبيباً نفسياً وأستاذاً جامعياً، كتحطيم المتبقّي في علاقاتٍ عائلية. اعتداء معنويّ عليه يعزله، تدريجياً، عن عيادته (التي تفرغ من المُصابين باضطرابات نفسية مختلفة) وجامعته، لكنّه، في الوقت نفسه، سيكون وسيلة اغتسال قاسٍ له من أحمال ثقيلة عليه، فيبدأ إزالة العالِق بينه وبين زوجته وابنته، رغم الكلفة الباهظة، وهذا بدوره مُكرّر في أفلامٍ مشابهه عدّة. إزالة العالِق، والاغتسال أيضاً من أخطاء منبثقةٍ من وجع وتمزّقات، وهذا تفعله غرايس ولوسي، كذلك، بمرورهما في تجربة العلاقة بجيمس، كلّ على حدة.
لكنْ، من هو جيمس، حقيقة؟ أيكون شقيق دافني، فعلاً، ويجهد في الانتقام لانتحارها ممن يظنّه مسؤولاً عنه؟ أم أنّه شخصٌ آخر، يُدعى إريك دالتن؟ فيليب يكتشف الحقيقة، فجيمس يدّعي أنّ له كتاباً بعنوان "إلقاء الظلال" (ترجمة حرفية لـ Shadow Cast)، صادراً في لندن. استلام فيليب للكتاب، في الفصل الأخير من فيلم فوغن شتاين، يُعلن حقائق، ويصنع "معجزة" التصالح العميق بين ثلاثيّ العائلة، وبين كل واحد منهم مع ذاته وروحه.
فيلمُ مُسلٍّ، رغم ضغوط نفسيّة مشغولة باحتراف مهنيّ عادي، تحديداً لمن يهوى هذا النوع السينمائيّ.