لو ظلّت تجربة الصحافي السويدي غورغين في الامتناع عن أكل اللحوم، في حدودها العادية (شاب مثقّف يَعي المخاطر المحيطة بالبيئة، يُقرّر أنْ يكون نباتياً)، لما أثارت فضول المخرج هوجير هيروري، أو تُحفِّزه على توثيقها. لكنْ، لمعرفته بامتلاكه سابقاً مطعماً للكباب، قرّر بيعه، كما قرّر ترك عمله الصحافي، والإقامة في منزل سيّار (كرفان)، والعيش بالحدود الدنيا، للتوافق الكلّي مع قناعاته البيئية، تضفي على تجربته غرابة، معرفته هذه حفّزته على تتبّع مآلاتها (التجربة)، في فيلمه الوثائقي "لا مزيد من الكباب أبداً" (2023)، المعروض على القناة التلفزيونية السويدية "أس فه ته".
عَمل غورغين باكيرتشي أوغلو، لسنوات، في الإذاعة السويدية، مُعدّاً ومُقدّمَ برامج، حظيت بمتابعة جيدة، جعلته شخصية عامة، تتمتّع بجاذبية وميل إلى تفهّم وجهات نظر الآخرين، المختلفين معها. كلّ تلك الخصال الشخصية سهّلت على صانع الوثائقي نقل تجربة ملهمة، اجتمع فيها الشخصي بالعام، إلى جانب توفّرها على مساحة كافية لعرض التغيير الإيجابي الحاصل في الموقف من البيئة، الذي يؤكّد بدوره أهمية المبادرات الشخصية في زيادة الوعي بالمخاطر الجدّية، المُهدّدة لكوكب الأرض.
هَجرُه الحياة اليومية ومغرياتها الاستهلاكية، وذهابه إلى الطبيعة، والعيش بالحدود الدنيا في "كرفان"، رفقة كلبته "رونيا"، التي صارت نباتية أيضاً، هذا كلّه أضفى مصداقية على التجربة، وتخوم حدودها الأبعد من الشخصانيّ الذي فيها. لم تعد تفاصيلها تخصّه وحده. كلّ قرار يتّخذه، يُقابله ردّ فعل من مُقرّبين له لا يشاركونه حماسته في الدفاع عن بيئة وكوكب، صار شائعاً الحديث عن أهمية الحفاظ عليهما. لكنْ، في الغالب الأعمّ، يريده الناس أنْ يبقى في تلك الحدود: كلام لا يُفسد نمط عيشهم في مجتمعات رأسمالية مرفّهة.
يؤكّد أهمية المبادرات الشخصية في زيادة الوعي بالمخاطر المُهدّدة لكوكب الأرض
بحكم عمله الصحافي، يطرح غورغين أسئلة، وينتظر من الآخرين الإجابة عليها. في تجربته الجديدة، مع وجود كاميرا لم تنفَكّ عن ملاحقته في 5 أعوام، تداخلت تلك الحدود المهنيّة لديه. صار ميّالاً إلى تفسير مواقفه بدقّة أكبر. يتوقّف ملياً عند مفهوم المثقف التفاعلي، وماذا تعنيه مساهمة الناس في تغيير ما يوجب تغييره. على المستوى الجواني، بدا الوقت كلّه صريحاً مع ذاته، يجاهر بصعوبات خياره العيش مختلفاً عن الجموع.
لتفعيل النظريّ، وتحويله إلى عمليّ مؤثّر، يُقرّر عمل كلّ ما يتوافق مع مقررات "اتفاقية باريس" لحماية البيئة. يشارك في مؤتمرات خارج السويد لهذا الغرض. يدعو الناس إلى مواجهة المخاطر بوعي وسلوك حقيقيين، يطبّقهما على نفسه قبل الآخرين. يقلّل من الانبعاثات الحرارية بالامتناع عن أكل اللحوم. بتركه الإقامة في المدن، يخفّض استهلاك الطاقة. يقارب عيشُه البسيط في سيارة متنقّلة مبدأ العيش في الحدّ الأدنى، الذي يتجاوز الآخذون به مقاييس مجتمعاتهم الاستهلاكية.
ينفتح الناشط البيئي بخياراته على عالم سويّ بسيط. ينسجم الانغماس فيه مع قناعاته، التي يطبّقها من دون إشعار الآخرين بنقصٍ أو تقصير. هكذا تعامل مع عائلته والمحيطين به، من دون أنْ يفقدهم. للمضي في تحقيق حلمه بإنقاذ البيئة من المخاطر المحدقة بها. استثمر وقتَه الفائض، إثر تركه العمل في الإذاعة بعد أكثر من عقد أمضاه في مكاتبها، في نشاطٍ آخر، مختلف وتوعوي، ينشر عبره قناعاته الفكرية، وإيمانه بطروحات علماء أدركوا ما يواجهه العالم من أخطار حقيقية. للتعبير عن ثقته بها، رفض فكرة الزواج وإنجاب الأطفال. اقترح على طبيب إجراء عملية عُقُم له. عاشر امرأة ترفض مثله فكرة الامتلاك الكلّي للآخر. إحساسه بالحرية وعدم الامتلاك يزيد من رغبته في المضي بتجربته، التي بها يواجه، في كرفان، شتاءً سويدياً بارداً، وإلحاحاً عائلياً بالكَفّ عنها.
العكس حدث. هذا يقوله الوثائقي الممتع والجدي في خاتمته: العائلة أضحت كلّها نباتية. والده قَبِل الامتناع عن أكل اللحوم، نزولا عند رغبتي ابنته وزوجته، التي أخذت تنشط على وسائل التواصل الاجتماعي، للترويج لثقافة المطبخ النباتي. للهروب من برد السويد، قرّر غورغين السفر إلى خارجها شتاءً، رفقة صديقته الدائمة الكلبة رونيا. عملية العُقُم لم تتمّ، لأسباب لم يذكرها الوثائقي، الحريص على نقل تفاصيل تجربة شخصية جديرة بالعرض، لما فيها من غرابةٍ وأهمية، لن يندم المُشاهد على تكريسه وقتاً لمتابعتها.