"لمسة" بالتاسار كورماكور... مصافحة خشنة مع الآلام

26 أكتوبر 2024
يتناول الفيلم الهجوم النووي على هيروشيما وناغازاكي (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "لمسة" (2024) للمخرج بالتاسار كورماكور يقدم معالجة جديدة للهجوم النووي على هيروشيما وناغازاكي من خلال قصة حب معقدة بين كريستوفر وميكو، مما يضفي طابعاً إنسانياً عميقاً يمزج بين الحب والألم والفراق.
- يعتمد الفيلم على تقنية "فلاش باك" للتنقل بين الماضي والحاضر، مستكشفاً تأثيرات الجريمة التاريخية على الأجيال اللاحقة وكيف يمكن للحب العميق أن يتأثر بتداعيات الماضي.
- يعكس الفيلم أوجهاً ثقافية متعددة ويستعرض التوجهات السياسية لطلاب الستينيات، مقدماً معالجة سينمائية شفافة ومتعددة التأويل مع تميز بصري.

غامر المخرج الأيسلندي بالتاسار كورماكور (1966) في جديده "لمسة" (2024) باختياره موضوعاً مستهلكاً، أُنجزت عنه مئات الأفلام بكلّ أجناسها وأنواعها وتيّاراتها، وفي حقب زمنية مختلفة، ممتدة لأكثر من 75 عاماً: الهجوم النووي الذي شنّته الولايات المتحدة الأميركية على المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناغازاكي (6 و9 أغسطس/آب 1945) في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وراح ضحيته أكثر من 220 ألف قتيل، إلى جانب جرحى ومُصابين بعاهات وتشوّهات وأمراضٍ سرطانية مختلفة متوارثة بسبب الإشعاعات.

عاد كورماكور إلى هذه الآلام مع شريكه في كتابة السيناريو الكاتب ورجل الأعمال أولاف أولافسون. نجحت مغامرتهما، إذ صنعا من "لمسة" (Touch) فيلماً مميّزاً، مليئاً بالعواطف، شحنتها مشاعر حب وحسرة وندم، ممزوجة بألم وفراق، وكلّها انفعالات بشرية تُحيي الموضوع الذي تسكنه، وفي الوقت نفسه تعيد رسم المعاناة القديمة بأثر رجعي.

لم يتناول كورماكور موضوع التفجيرين المرعبين مباشرة، بل كإفرازات جانبية، باختياره لندن مسرحاً أساسياً لأحداث "لمسة"، مع استئناس بأيسلندا واليابان، باعتبارهما رافدين لمجريات القصّة، عبر كريستوفر (مثّل بالمي كورماكور دوره شاباً)، الشاب الأيسلندي الذي يدرس الاقتصاد في إحدى الجامعات المهمة في لندن، لكنّه تأثّر بالفكر الشيوعي، وقرّر ترك الدراسة بعد عثوره على عمل في مطعم ياباني للاحتكاك بالطبقة الكادحة، حتى يتناغم مع توجّهه الفكري. هناك، تعرّف إلى ابنة مالك المطعم تاكاهاشي (ماساهيرو موتوكي) الشابة ميكو (مثّلت كوكي دورها شابّة) التي تدرس علم النفس، واستطاعت النجاة مع والدها من تفجير هيروشيما. يومها، قرّر والدها تأسيس مطعم في لندن، وكان مهووساً أيضاً بفكرة زواج ابنته وإنجابها، لأنّه يعتقد، بل يجزم، أنّ مولودها ربما سيكون مُعوّقاً. لذا، عند تأكّده أنّ علاقتها مع كريستوفر جدية، ثم عرف أنّها حامل منه، ترك المطعم وبيته عائداً إلى مدينته في اليابان ليُجبرها على التخلّص من جنينها، فلا تعيش المأساة التي كان يعتقد أنّها ستحدث.

استطاع كورماكور تحويل الهامش إلى متن، واستبدل القصة الأساسية، التي تتجلّى في الحب العميق بين كريستوفر وميكو، إلى فعل هامشي. أوجد مسافة جمالية، أظهر فيها حجم الجريمة التاريخية التي ارتكبتها أميركا على المدنيّين، وفي الوقت نفسه عَدّد بعض إفرازاتها وأمراضها النفسية على أجيال كاملة لاحقة. حتّى إنّ الحب العميق تأثّر، وفرّق بين الحبيبين.

استعان كورماكور بتقنية "فلاش باك" لخلق توازن ومقارنة بين كريستوفر الشاب وكريستوفر الكهل (إييل أولافسون)، الذي قرّر إغلاق مطعمه والبحث عن أجوبة عن ماضيه، خاصة أنّ الطبيب نصحه بحلّ بعض القضايا المعلّقة، قبل أنْ يصيبه ألزهايمر الذي بدأت مؤشّراته تظهر. سافر إلى لندن ثم إلى اليابان للعثور على حبيبته القديمة ميكو (يوكو ناراهاشي). الـ"فلاش باك" خير وسيلة لمقاربة الماضي والحاضر، إذ يسمح لكورماكور بالتنقّل بسهولة بين أزمنة وفضاءات عدة، وعدم إشغال المتلقّي بتحليل المنافذ التقنية والخيارات الجمالية. هذا خيار مُجدٍ رغم بساطته، وفعّال في الأفلام ذات النَفس التاريخي والأزمنة المتداخلة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يظهر "لمسة"، في زمنيه الدرامي (121 دقيقة) والتاريخي المُتعدّد (73 سنة) أوجهاً ثقافية عدّة، سواء ما انعكس لدى أبطاله، أو كأحداث تاريخية ثابتة، خاصة الشعر الياباني الـ"هايكو" (مقطع شعري مُكوّن من ثلاثة أسطر بسيطة). حاول كورماكور إيصال هذا الإرث الأدبي إلى المتلقّي، وحرّضه على نظمها عبر أبطال فيلمه، تحديداً كريستوفر وتاكاهاشي (ماساهيرو موتوكي). كما يظهر غنى اللغة اليابانية، بتلخيصه جُملاً وعبارات في كلمة واحدة، وهذا إنجاز لغوي مهمّ.

أما في الفكر السياسي، فيبيّن توجّهات طلبة واهتماماتهم بأقطاب ونظم اقتصادية وسياسية، ومرجعيات فكرية ترسم أبعاد حاضر هذه الحقبة (نهاية ستينيات القرن الـ20) ومستقبلها. وجَسّد كريستوفر تلك الثورة في شخصه، لأنّه أراد التخلّص من الهالة التي أحيط بها، بوصفه طالباً مرموقاً في جامعة مهمة، باشتغاله نادلاً بروليتارياً. 

"لمسة" مصافحة خشنة مع الآلام، ومحاولة ذكية من بالتاسار كورماكور لتذكير إنسان الحاضر بأهوال الماضي وجرائمه، تلك التي لا تسقط بالتقادم، لأنّ سهامها لا تزال حادّة، تُلمّع وتُصوّب في كلّ منعرج تاريخي، لتصوّب إلى القلوب البريئة وتُدميها، خدمة لأيديولوجيا معيّنة أو توجّه سياسي.

قدّم كورماكور "لمسة" حانية على أوجاع آلاف ضحايا التفجيرين النوويين، وعاد بهم إلى زوايا مظلمة وموحشة. ورغم أنّ العودة لم تكن سوى تلميحات غير مباشرة، خَلَق بها لغة سينمائية شفّافة ومعقولة ومتعدّدة التأويل والتفسير، ساعدت الفيلم في تنويع جمالياته، وأهمّها، من ناحية المنطلقات البصرية، الصورة التي أبدع فيها بِرغْشتين بيورغولفسون، الذي لم يكتفِ بخلق كادرات مدروسة، بل تعدّاها إلى التلاعب بالظلّ والنور، واضعاً إياهما في خدمة موضوع العمل عامة، ليكون من بين أهم الأفلام التي تناولت هذا الموضوع المؤلم والمُعقّد.

دلالات
المساهمون