مانو خليل: عن قصّة كُتبت قبل 25 عاماً

26 يناير 2021
يرتبط الفيلم بممارسات النظام القمعي في سورية (Getty)
+ الخط -

في فيلمه الجديد، "جيران"، عاد المخرج السوري مانو خليل إلى سيناريو كتبه قبل خمسة وعشرين عاماً، لينبش في الذاكرة السورية، ويصور فيلماً ينتمي زمنياً إلى حقبة الثمانينيات. فيلم له خصوصية كونه مستوحى من حياة خليل في تلك الفترة.
التقت "العربي الجديد" بالمخرج مانو خليل، لمناقشة فيلمه الجديد، الذي شارك بلعب أدوار البطولة فيه مجموعة من النجوم السوريين والعالميين، منهم: جهاد عبده وجلال الطويل والبرازيلية تونا دويك، ومازن الناطور، وأحمد زيرك. 

حول القضايا التي يتمحور حولها فيلم "جيران"، يقول خليل: "هناك عديد من القضايا التي نطرحها في فيلمنا "جيران"، ولكن يمكن اختزالها بكلمتين: الكرامة الإنسانية. فجميع التعابير، كالاحترام، التضحية، الحب، الأخوة والتعايش المشترك، ليس لها أي معنى إن فقد الإنسان كرامته؛ فهي بنهاية المطاف ينابيع صغيرة تصب في النهر الأعظم للروح البشرية، ألا وهو الكرامة. فالإنسان يمكن أن يصاب بفواجع عديدة وقاسية، قد ينسى ألمها مع مرور الزمن، إلا أن فقدانه لكرامته هو شيء لا يعوض أبداً، فهي أكبر وأفجع تراجيديا قد تمرعلى بني البشر. وفي فيلم "جيران" نطرح قضية أساسية في الوجود البشري، وهي قضية احترام الآخر؛ الآخر المختلف دينياً، ثقافياً، سياسياً، اجتماعياً وقومياً".

يضيف خليل: "بعيداً عن مجاز اللغة، يتناول فيلم "جيران" مواضيع تطرح للأول مرة في تاريخ السينما السورية، وفي تاريخ سورية الحديث، بطريقة شفافة وفنية عالية من دون أي عمليات تجميل وإشارات تعبيرية أو رمزية، فيطرح مواضيع أو خطوط حمراء عن السنوات الخمسين الأخيره في تاريخ سورية الحديث، وعن ممارسات نظام البعث في تحطيم إرادة الشعب السوري بكل فئاته وقومياته، بما فيها التربية البعثية في المدارس، والديكتاتورية وتأليه حافظ أسد والبيروقراطية التي تنخر في جسد هذا النظام الشوفيني، بالإضافة لممارسات النظام القمعية لحق من لا ينتمي لحزبه وأيديولوجيته البعثية، ومحاولته لتغيير ديمغرافية المنطقة الكردية من خلال إحضار قبائل بدوية وإسكانها في الجزيرة تحت مسمى الحزام العربي، حيث لا تزال قضية عرب الغمرعلى صفيح من نار، وما نجم عن ذلك من محاولات لتعريب الشعب الكردي ومنع أطفال الكرد من استعمال لغتهم الأم وحرمانهم من حقوقهم الثقافية والسياسية والاجتماعية على مدى خمسين سنة".

يناقش الفيلم مواضيع تتعلّق بالخمسين سنة الأخيرة في سورية

يتابع: "بكل الأحوال، يرسم الفيلم صورة عن سورية الحلم، أو سورية الأرض التي سيعيش عليها أناس جميلون يحترم أحدهم الآخر، المختلف لغةً وديناً وثقافةً، كما كانوا يعيشون سابقاً، كجيران، من دون ظلم ومن دون تربية بعثية أو مخابرات أو أجهزة قمعية؛ إنه فيلم عن سورية الديمقراطية الحرة والسعيدة".

وعن الأسباب التي دعت خليل إلى العودة لسيناريو كتبه ببداية مسيرته، يقول: "في عام 1986، تركت جامعة دمشق حيث درست التاريخ والحقوق، وقرّرت السفر إلى تشيكوسلوفاكيا لدراسة الإخراج السينمائي. تصرفت حينها كأي شاب رفرفت في جوانحه الحاجة للحرية والانعتاق من نير طاغية، كسر ببجاحة وفظاعة كل المبادئ والقيم التي تدعو لاحترام الإنسان، متسلحاً بخناجر وسيوف صدئة من الشعارات السخيفة لحزبه النازي".

يوضح: "جاءت فكرة الفيلم حينها، عندما طفح كيل الظلم البعثي والتربية العبودية، التي تمد جذورها عميقاً كورم سرطاني في سورية. سورية التي كانت للعرب كما كانت للأكراد والأرمن والسريان والكلدان والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسلمين والمسيحيين واليزيديين واليهود؛ قام الطاغية الأسد بتحويلها  إلى سوريته وحده، فلم يرضه أن يسمى شارع أو ملعب رياضي أو مطار أو بحيرة إلا باسمه، وأطلق على نفسه لقب المالك الأوحد للبلد وأصبحت البلاد "سورية الأسد"، سورية الغابة التي يتربع هو عليها".

يضيف خليل: "القصه كتبتها قبل سنوات كثيرة، وكان حلمي كمخرج أن أنجز هذا المشروع. وفي قرارة نفسي كنت أؤمن أنني يوماً ما سأنجز هذا المشروع. مرت السنوات ولم يمت الحلم في نفسي، وبين الحين والآخر كنت أجدد القصة لتتناسب مع الأحداث التي تدور في البلد، لكن كان هناك ظروف موضوعية ومعنوية تقف عائقاً أمام إنجاز الفيلم. كنت أود تصويره في سورية، وكان هذا من المستحيل لما يحمله من زخم سياسي في الطرح. كذلك، صعوبة إيجاد تمويل كبير يغطي التكاليف الطائلة للمشروع كانت عائقاً آخر، فميزانية الفيلم الحقيقية كلفت ما يقارب مليونين ونصف دولار. الآن أنجزته، بعد أن مضت السنوات ووجدت في نفسي الشجاعة لأخوض تجربتي وأحقق حلمي، وبالأخص بعد عملي على إنتاج وإخراج عدة أفلام لاقت نجاحا في الوسط الأوروبي، وبعد سنوات الدمار والحرب في سورية التي لم يتبق فيها حجر على حجر؛ فلم يعد هناك وقت للانتظار، فإن لم أصور فيلمي الآن، لن أصوره أبدأً، وبالفعل كنت موفقاً بإيجاد تمويل دولي بمشاركة قنوات تلفزيونية أوروبية، وشركتنا "فرام فيلم" للإنتاج السينمائي، التي ساهمت في تمويل المشروع وتنفيذه".

الاحترام والتضحية والحب، والأخوة والتعايش المشترك، كلّها تعابير ليس لها أي معنى إن فقد الإنسان كرامته

صوّر خليل فيلمه في كردستان؛ لتكون كردستان اليوم بديلاً عن الثمانينيات بسورية. وحول إذا ما كان هناك أوجه شبه بين المكانين، والأسلوب الذي اتبعه خليل لاستحضار مناخ سورية المنغلق هناك في تلك الحقبة، يقول: "كنت أود أن أصور الفيلم في قرية حدودية  بين سورية وتركيا، التي نسميها نحن الكرد بـ سرخت وبنخت، والتي تعني فوق الحدود وتحت الحدود. لكن كانت هناك صعوبة كبيرة في إحضار فريق عمل مكون من 100 شخص على الأقل إلى سورية في الوقت الراهن، وتأمين مصاريف سكنهم ومعيشتهم اليومية هناك؛ لذلك قررنا بناء قرية مماثلة لقرى الجزيرة السورية... لكن ولحسن الحظ وجدنا قرية آشورية في كردستان العراق، قمنا ببناء ملاحق للبيوت فيها، وتعديلها لتشبه قرى وبيوت منطقة القامشلي".

يتابع خليل: "إن طبيعة القرية وبيوتها الطينية ساعدتنا كثيراً، فهي مشابهة جداً للأرض والقرى الكردية في الجزيرة، وخاصة القرى القريبة من الحدود. ولأن فيلمنا روائي، نحن نحتاج فقط لاستحضار نسخة من الواقع. فعلياً، الشيء الذي كان يدعم الإحساس بصدقية المكان، تم من خلال الناس، فالكومبارس وأطفال المدرسة والطفل الذي يلعب الدور الرئيسي في الفيلم كانوا جميعاً سوريين من مخيمات اللجوء في كردستان، وهذا كان يضفي طابعا قوياً وإحساساً بأننا في قرية من قرى الجزيرة السورية بالفعل".

عادةً، تعتمد الدراما المستندة للسير الذاتية على الانتقاء لاختيار لحظات ومشاعر من الماضي، لرسم صورة مختزلة عن الواقع، وغالباً ما يساهم الظرف الراهن بتوجيه الذاكرة بشكل أو بآخر. وعن ذلك، يقول خليل: "أعتقد أن من عاش المأساة، أياً كانت، هو الوحيد الذي يمكنه التعبير عن معاناته بصدق وعفوية، إذا وجد لديه الآلية والرغبة للتعبيرعن تلك المعاناة. شخصياً، ككاتب للسيناريو، عشت كطفل الكثير مما كتبته في القصة، والشيء الذي لم أعشه شخصياً كنت شاهداً عليه، وهذا  الأمر سهل المهمة في التصوير، وإعادة تصوير المشاعر والأحاسيس الماضية المعاشة وإعطاءها نفسا آنيا، وكأن ما حصل يحصل الآن، من دون أن يفقد مصداقيته ويسقط في السرد اللامقنع والرديء".

يضيف: "كنت سعيداً أن يكون ضمن فريق العمل أشخاص مهنيون قاموا بأداء أدوارهم بجدارة، مثل جهاد عبده، مازن الناطور، جلال الطويل، والبرازيلية السورية تونا دفيك، وفنانين أكراد، مثل زيرك، بنكين علي، هفال نايف ونسيمة الضاهر، وفي مقدمتهم جميعاً الطفل الرائع سرمد خليل، الذي أبدع في التمثيل رغم أنه لا يزال في السادسة من عمره؛ فوجود ممثلين مثل هؤلاء وبكل حرفيتهم وفهمهم للواقع والماضي الذي يجسدونه اليوم، أعطى العمل زخماً آخر، فما كتب في السيناريو بدا وكأنه كان مكتوباً خصيصاً لهم، وهي أحداث عاشوها بطريقة أو بأخرى مع اختلاف الوقت والمكان ربما. قد يكون ساعدهم على ذلك، أنهم ممثلون اضطروا لترك وطنهم بسبب هذا النظام، فكانوا في نهاية المطاف يمثلون قصصهم السورية ومعاناتهم، التي هي معاناتي ذاتها كإنسان وكمخرج".

إحضار 3000 قطعة لباس تعود لسنوات الثمانينيات وإرسالها من أوروبا إلى كردستان وتأمين ألبسة سورية قديمة وشاحنتين من الإكسسوارات وقطع الديكور من قامشلي إلى كردستان

وعن التحديات والصعوبات التي واجهت مانو خليل خلال إنجاز الفيلم، يقول: "الحديث عن التحديات والصعوبات بعد إنجاز العمل هو تحصيل حاصل كما يقال، المشكلة أنه لم يكن لدينا إمكانية إحضار إكسسوارات أو ألبسة من استوديو سينمائي لا في كردستان ولا في سورية، فكان يجب إيجاده بشكل شخصي، كان لدينا مجموعة من عمال الإكسسوار الذين كانت مهمتهم لسنة كاملة إيجاد مستلزمات المنازل والديكورات المستعملة في الجزيرة السورية حصراً. وتم إحضار 3000 قطعة لباس تعود لسنوات الثمانينيات وإرسالها من أوروبا إلى كردستان وتأمين ألبسة سورية قديمة وشاحنتين من الإكسسوارات وقطع الديكور من قامشلي إلى كردستان، بالإضافة لتأمين سيارة سورية موديل الثمانينيات. كان علينا الابتعاد عن تصوير أي شيء لم يكن له وجود في ثمانينيات القرن الماضي في سورية. وخلال التصوير، كنا قلقين ومتوترين من تهديدات الأتراك بعمليات عسكرية شرق الفرات في مناطق الأكراد وانسحاب الجيش الأميركي من سورية، ما أجبرنا على إيقاف التصوير بسبب أصوات الطائرات التي كانت تقوم بحماية القوافل العائدة من سورية، وهذا كان له تأثير على الأوروبيين المشاركين بالعمل على وجه الخصوص".

المساهمون