تحت شمس الظهيرة الساطعة، وعلى حماوة أسفلت الطريق الجبلية الملتوية بين هضبات لوس أنجليس، تتلوّى نجمة البوب مايلي سايرس وترقص، قد لفّ جسدها فستان سَهَرٍ فتّانٌ، يتوهّج كما لو فُصِّل من ورق الذهب، يعكس جرأة وثقة بالنفس، تجعلانها غير مكترثة بأن الوقت ليس وقت فساتين السهر، وغير خائفة من مغبة أن تصدمها سيارة، قد تمر مسرعة على حين غرّة داخل المنعطف. هكذا، ومن خلف نظّارة شمسية، تبدأ الغناء في مقطع الفيديو المصور لـ Flowers، الأغنية الرئيسة في ألبومها الذي صدر مطلع هذا الشهر ويحمل ذات الاسم.
ثم تنتقل بنا الكاميرا إلى حديقة في دار، لعلها دارها. هناك، ستخلع فستان السهر، لتبدأ استعراضاً مغرياً يجمع بين الغناء والرقص، تتخلله مقاطع تصورها وهي تؤدي تمارين لياقة بدنية عالية الشدّة، في توكيد على موضوعة القوة الجسدية والنفسية. بعد الاستحمام، عند مغيب الشمس وحلول المساء، لسايرس موعدٌ مع رداء جديد، صُمّم على هيئة بزّة سوداء، ستضفي عليها هذه المرة مظهراً ذكورياً. به، تتابع الرقص منفردة في أرجاء الدار، وعلى السطوح، كما لو أنها تختبر حالاً من النشوة، أو أصابها مس من الجنون.
تدور كلمات الأغنية، بصوت سايرس، حول الأسباب التي دفعت بامرأة لأن تترك حبيبها الذي يبدو أنه قد أهملها وانصرف عنها؛ إذ تغني كما لو أنها تشير إلى غيابه: "لا أستطيع أن أشتري لنفسي وروداً، لا أستطيع أن أخط اسمي على الرمال. لا أستطيع أن أكلّم نفسي لساعات، أن أصطحبني إلى الرقص أو أن أمسك يدي بنفسي". بهذا، تستند مروية النص المُلحّن إلى موضوعة أخذ المرأة زمام المبادرة بفك الارتباط وهجر الحبيب، إن لم يف بما يلزم ضماناً لاستمرار العلاقة.
ترد أيضاً خلال النص عبارات مثل "لا ندم، ولا شعور بتأنيبٍ للضمير"؛ إذ تتضمّن نزوعاً إلى التخلّص من أيّ إحساس بالذنب حيال أيّ قرار يُتّخذ في معرض الحياة. عباراتٌ توحي باستعادةٍ لخطاب مشابه من حيث النبرة التمكينية Empowering بداية ستينيات القرن الماضي، كان قد صدر عن حنجرة المغنية الفرنسية إديت بياف، حين قالت في مطلع أغنيتها "لا، لا أندم على شيء أبداً". (Non, Je Ne Regrette Rien): "لا، لا شيء أبداً. لا أندم على شيء أبداً، لا على الخير ولا على السوء، كلاهما إليّ سيان".
لا تتشابه الأغنيتان في إطار الخطاب فقط، وإنما أيضاً في طبيعة الحنجرة وأسلوب الأداء لكل من المغنيتين بياف وسايرس، أي ذلك الصوت الحاد الجارح خفيف الأنوثة، العاكس لمظهري القوة والثقة. أما ما لا تتشابهان به، فهو روح العصر. بينما تقف بياف منتصبة على خشبة مسرح وخلف ميكروفون، تغني بوقار وجبروت صوتي مُغلّف بالحشمة والرزانة، يودع خطاب التمكين عند سايرس غلافاً معاصراً لما يشيع اليوم ويعرف بـ "تطوير الذات" (Self Optimisation)؛ إذ لا تعكس لغة الجسد، وتصميم الرقصات خلال الفيديو قيم التحرر الجنسي والاجتماعي السائدة وحسب، وإنما أيضاً الانهماك، إلى حدود الإنهاك، في ممارسة الرياضة الشاقة، بغرض الارتقاء بالصورة المثلى لإنسان الألفية الثالثة.
امرأة لا تشبه، بل تُعارض الصورة الهشّة والهائمة، المحلّقة كفراشة حمراء في مهب ريح الحب وتقلبات العاطفة، كما جسدتها كيت بوش (Kate Bush) بغنائها المغالي في طبيعته الأنثوية، هذه المرة في السبعينيات. فترةٌ ميّزها توجهٌ محافظ قد عمّ في سائر الغرب. من خلال أغنيتها المصورة "مرتفعات وذرينغ" (Wuthering Hights)، سنة 1978، تبدو علامات الضعف، الانقياد والاتكال العاطفي، سواءً تعبيرياً من خلال أسلوب الأداء، الجسدي والموسيقي، أو الكلمات، التي وإن تحدّثت بدورها عن الهجر، إلا أنها قاربته من زاوية الضحية والمفعول به. تقول بوش: "كيف لك أن تهجرني؟ عندما كنت بحاجة إلى أن أتملّكك؟ داهمتني أحلام مزعجة في الليل، تنبئني بأنني سأخسر النزال".
تظل السمة الجامعة لكل من بياف وبوش وسايرس، هو الغناء من مسرح الوحدة، المرأة الوحيدة، والإنسان الوحيد الحالم والعازم في مجتمع الحداثة القائم على الصناعة ورأس المال. بأسلوب درامي وقور يصدح صوت بياف بالعزة والشجاعة، بينما تشدو بوش بالحسرة والانكسار، أما سايرس فتعكس حنجرتها الشخصية العصرية الواثقة المستقلة، المستغلة لكل علاقة منتهية في البدء من جديد والعمل على توكيد الذات وتطويرها، عبر المزيد من التمحور حولها.
غناء البوب، بما فيه نجومه، إنما هو صناعة هدفها تحقيق الربح عبر الوصول إلى أكبر عدد من المستمعين. الأمر الذي يفرض على الأغنية الجماهيرية معايير وسطية. والغاية هنا إرضاء الجميع، أو على الأقل الاستجابة إلى الحد الأدنى من متطلبات الذائقة العامة. فمن خلال Flowers، تسعى سايرس إلى ركوب الموجة النسوية المتصاعدة في العالم بأسره، والغربي على وجه الخصوص. إلا أنها في المقابل تقدم صورة نسوية مختزلة إلى حدود الظاهر التسليعي، كما هو سائد لدى الشريحة الأعرض ضمن المجتمعات النيوليبرالية؛ النسوية جسداً قبل أن تكون روحاً، وتحرراً قبل أن تكون حرية.
يتوجه خطاب الأغنية الجماهيرية بالمجمل نحو جيل الشباب. وفقاً لذلك، عادة ما تنتقى الموضوعات وتُصمم الألحان لكي تخفف من وقع أزمات نفسية يمرّ بها المراهقون بصفة خاصة وبصورة متواترة، جراء الفراق عن الأحبة والعلاقات العاطفية الفاشلة. تحضّ على تخطّي الحزن وتجاوز الاكتئاب، والقفز فوق المكابدة والمعاناة، عبر رفع المعنويات وبثّ الأمل بغدٍ أسعد أكثر إشراقاً. وفي سياق الراهن، أخذت أغاني البوب، كـ Flowers، تحاكي رواج أدبيات المساعدة الذاتية (Self Help) القائمة على حب النفس أولاً، والتمحور حولها أساساً ومنطلقاً لتمكين المرأة العصرية.
لا غرابة، إذاً، في سياق الراهن، أن يمنح موقع بي بي سي على الإنترنت مايلي سايرس صفة نجمة البوب المثلى للقرن الحادي والعشرين؛ إذ تشطب ابنة الحادية والثلاثين عاماً جميع المربعات كما يقال، الفنية منها والثقافية. صوت قوي مستقر، قوام حسن متناسق، شخصية واثقة تنبعث منها طاقة حيوية. لها إذاً أن تنجح بيسر في مسك العصا النسوية من المنتصف.