توفر المتاحف في العادة الفرصة لاستكشاف التاريخ، أو الأجزاء التي يُعتقد أنها جديرة بالعرض منه بأي حال. وتقدم نفسها بالتالي على أنها مساحات تنتمي في الوقت نفسه إلى الآن والحاضر، وإلى ماضٍ ما، تحاول رسمه وتصديره. إلا أن لهذه الحكايات شقاً ثانياً أيضاً، يكون موضوعه تاريخ هذه المتاحف نفسها، ومجمل الرحلات التي مرت بها قبل أن تتحول إلى الصروح التي نعرفها اليوم، وربما يكون لمتحف المقتنيات الملكية في العاصمة الإسبانية مدريد، الذي يستعد لفتح أبوابه للعامة قريباً، نصيبه من هذه القصص.
الماضي يبدأ الآن
يستطيع الجمهور، ابتداءً من الثامن والعشرين من شهر يونيو/حزيران المقبل، زيارة المتحف والاطلاع على تشكيلة واسعة من الأعمال الفنية والمقتنيات الأثرية. إلا أن الفكرة لإنشاء هذا المتحف تعود بالأساس إلى ثلاثينيات القرن الماضي، خلال الحقبة الجمهورية الثانية في البلاد، قبل أن تصطدم هذه الفكرة الأولية بتعقيدات الواقع وبداية الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، وتقترب بدرجات متفاوتة من التبلور، ثم تحصل على الضوء الأخضر من الحكومة الإسبانية عام 1998 وتمويلٍ بـ162 مليون يورو.
ورغم أن الفترة التي تلت هذا الإعلان كانت أهدأ نسبياً، إلا أنها لم تخلُ من المعرقلات والأحداث التاريخية البارزة التي ساهمت في عرقلة المشروع. فمع مضي المشروع قدماً، ظهرت أزمة 2008 الاقتصادية التي ساهمت في رفع معدلات التضخم في إسبانيا، وانعكست آثارها على المشروع، ما تطلّب ثلاثة أضعاف الميزانية الأصلية التي خُصّصت له. وفي المرحلة نفسها، واجه القائمون على المشروع مشكلةً تعود إلى عدة عصور مختلفة، بعد اكتشافهم أن موقع المشروع يزخر بالبقايا الأثرية، التي توفر بعضها مداخل عن الحياة في القرن التاسع عشر، بينما يعود بعضها الآخر للآثار العربية في المنطقة في القرن التاسع الميلادي.
ورغم خط سير العمل المتعرّج هذا، إلا أن الجمهور حظي أخيراً بموعد افتتاحٍ أولي بعد كل هذا الانتظار، وتأكيد من المتحف. وكما سيعرف القراء اليوم، فإن هذا الموعد، شأنه شأن الكثير من الأحداث التي لم تجر كما خُطِط لها، كان في عام 2020، عام الجائحة الذي سيذكر التاريخ أنه أعلن بداية عصرٍ من عدم اليقين الذي طاول قطاعات بأكملها، وقد يكون على رأسها قطاعا السياحة والفنون، الأمر الذي سيؤجل افتتاح المتحف ثلاثة أعوام أخرى تقريباً.
ومن المنصف القول إن تاريخ إنشاء متحف المقتنيات الملكية، بوصفه دالاً على مراحل مفصلية عاشتها إسبانيا والعالم، لن يكون أقل إثارة للاهتمام من معروضات المتحف الكثيرة، لما لحكايته من تقاطعات مع نواحٍ كثيرة كالحوكمة والاقتصاد وغيرها. وبعد هذا الاستعراض، ربما يصبح البحث في محتويات المتحف وبنيانه أمراً ممكناً. فما الذي يمكن للزوار أن يتوقعوه؟
توقعات الحاضر
يمتد متحف المقتنيات الملكية على مساحةٍ تقدر بـ40 ألف متر مربع بالقرب من معالم رئيسية في المدينة، مثل حديقة كامبو ديل مورو ومنطقة القصر الملكي وكاتدرائية المودينا، مشتملاً على ستة طوابق مصممة لتلبي غايات مختلفة، كعرض الأعمال الفنية والورشات التعليمية، إضافة إلى المساحات المكتبية. وضمن علاقته بسياقه الحضري، يجمع المتحف، الذي صممه المعماريان إميليو تونيون لويس ولويس مورينو مانسيلا، أسلوباً كلاسيكياً يتآلف مع البنى المحيطة كالقصر الملكي وآخر أكثر حداثةً ومعاصرةً، لينسجم المتحف مع محيطه المتنوع.
أما داخل أروقة المتحف، فسيتوقع الزوار تجربةً تتكامل فيها هذه البنى مع مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية لفنانين شهيرين، مثل خوان دي فلانتيس وكارفاجيو ودييغو فيلاثكيث وفرانسيسكو دي غويا وهيرونيموس بوش، وعملاً للويزا رولدان، النحاتة الإسبانية من القرن السابع عشر التي كانت أول امرأة تنحت للبلاط الملكي، إضافةً بالطبع لفرصة استكشاف الحائط العربي، الذي يقول القائمون على المعرض إنه يتماهى بشكل كبير مع هوية المتحف والمواد المستعملة في تركيب كل منهما.
وفي تصريحٍ لصحيفة ذا غارديان البريطانية، ركّزت آنا دي لا كويفا، مديرة وكالة التراث الوطني الإسباني، على تنوّع المتحف بوصفه إحدى نقاط قوته: "على عكس عدد من المتاحف الأخرى في مدريد، يضم هذا المتلحف مقتنيات مختلفة، وليس مجرد متحفٍ مختص باللوحات أو المنحوتات. يعرض هذا المتحف كل الممتلكات الفاخرة التي اقتناها أفراد العائلة المالكة، مثل المراوح والساعات والزجاجيات والذخائر والمفروشات والسجاد والأثاث والأدوات المذهبة وغيرها".
ضمن السياق الإسباني
رغم التوقعات العالية التي تحيط بالمتحف وقدرته على جذب السياح والزوار، إلا أن إسبانيا نفسها ليست غريبة عن هذا الوضع وإسهامات السياحة. ففي عام 2019، وقبل تفشي كوفيد 19، كان القطاع السياحي يساهم بشكل مباشر وغير مباشر بما يقارب 155 مليار يورو، أو ما يعادل 12.4% من الناتج الإجمالي المحلي للبلاد، ما يجعله واحداً من القطاعات الحيوية في البلاد، وهو يعد مسؤولاً عن توظيف 13.5% من القوى العاملة في إسبانيا.
وفي العام ذاته، زار أكثر من 83 مليون سائح إسبانيا منفقين ما قرابته 84.5 مليار يورو. وشأنها شأن أي دولة تشكل السياحة عصباً رئيسياً لاقتصادها، كان مشهد ما بعد الجائحة يختلف كلياً عما ساد قبلها؛ إذ انخفض عدد هؤلاء إلى 19 مليوناً في عام 2020، مخفضين معهم إسهام القطاع في الناتج المحلي إلى 5.5%.
ورغم قتامة هذه الصورة، إلا أن التحسن الجزئي كان عنوان المرحلة التالية، مع انتعاشات جزئية في عامي 2021 و2022 من حيث عدد السياح وعائدات القطاع، وآمالٍ بعودته إلى وضع ما قبل الجائحة في 2023. وضمن هذا السياق الحساس، يستعد متحف المقتنيات الملكية لفتح أبوابه، ولعب عدة أدوارٍ وتعاريف في الوقت ذاته، كبوابة زمنية بدايةً، وشاهد متفاعل مع أحداث تاريخية عدة ثانياً، ومساهمٍ محتمل على جبهة التعافي من الجائحة أخيراً.