حتى الخامس من يناير/كانون الثاني الحالي، كان اسم نوفاك ديوكوفيتش، مرتبطاً بنجاحه المبهر في عالم كرة المضرب: موهبة استثنائية جعلته مصنّفاً أولَ، وفخراً لبلاده صربيا.
لكن ليلة الأربعاء 5 يناير خرج ديوكوفيتش من فقاعته الرياضية ليملأ الدنيا ويشغل الناس. تدفقت أخباره بشكل هستيري على وكالات الأنباء، وفتحت له المواقع الإخبارية صفحتها الرئيسية لتحديث التطورات التي رافقت وصوله إلى أستراليا ومنعه من دخول البلاد بسبب عدم حصوله على اللقاح المضاد لفيروس كورونا.
كيف انتقل نوفاك ديوكوفيتش من هنا إلى هناك؟ كيف ترك موقعه الآمن كرياضي ناجح ومحبوب ليصبح رمزاً لواحد من أكثر الصراعات استقطاباً حول العالم حالياً، صراع اللقاح وإلزاميته؟
في الأسبوعين الأخيرين بدا الهروب من قضية ديوكوفيتش مستحيلاً، حتى بالنسبة للأفراد غير المهتمين بكرة المضرب أو بإلزامية اللقاحات. إذ تحوّلت قضيته إلى القضية الأولى في الإعلام الغربي، وهو ما انسحب بشكل تدريجي على الإعلام العربي. وأمام كثافة المعلومات بات تتبع تفاصيلها مهمة عويصة: سحب التأشيرة ثم إعادتها، قرار قضائي ثم رد للقرار، رفض اللقاح ثم ظهور إصابته السابقة بفيروس كورونا، ثم المواقف السياسية، ثمّ الفندق الذي ضمّ مهاجرين واحتضن الليالي الأولى لإقامته في أستراليا... كيف بدأت القصة؟ وكيف انتهت؟ وما هو التسلسل الحقيقي للتفاصيل العالقة بين البداية والنهاية؟
لم يقل ديوكوفيتش شيئاً كثيراً طيلة الأيام الأخيرة، واكتفت الأطراف المحيطة به بتصريح من هنا وآخر من هناك. عائلته تقول إنه تعرض للتعذيب والإذلال، والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش يؤكد "بذل كل جهد ممكن لوضع نهاية على الفور لهذه المضايقات ضد أفضل لاعب تنس في العالم"، والحكومة الأسترالية تستعرض قوتها.
للاعب الصربي علاقة متوترة بالطب التقليدي
تسير قصة ديوكوفيتش في أستراليا، في خطين متلازمين، وهو ما جعلها ربما بهذه البهرجة والإغراء للصحافيين والمغردين والأطباء، وباقي سكان الكوكب. الخط الأول مرتبط بشخصية اللاعب الصربي الإشكالية أساساً. أما الخط الثاني فهو التفسير الأبسط والأكثر وضوحاً المرتبط باللقاح وإلزاميته، وهامش احترام الحريات الشخصية للأفراد عندما يتعلق الأمر بوباء قاتل ومستمر.
لم يخفِ اللاعب الصربي يوماً علاقته المتوترة بالطب التقليدي، ولم يكن تصريحه في إبريل/نيسان 2020 بأنه لن يتلقى اللقاح المضاد لكوفيد 19، في وقت كان الفيروس يتفشى بشكل هستيري حول العالم، سوى تتويج لهذه العلاقة المرتبكة والحذرة مع الطب.
في مقال نشرته مجلة "نيويوركر" الأميركية، يعيدنا الصحافي جيرالد مارزوراتي إلى شوارع بلغراد، المدينة التي نشأ فيها ديوكوفيتش. هناك حيث تسير جنباً إلى جنب دعوات السلطات إلى التلقيح، مع ازدهار كل أنواع الطب البديل.
من العاصمة الصربية بدأ اللاعب علاقته بالطب الآخر، ذاك الذي لا يُستخدم في المستشفيات ولا تُباع أدويته في الصيدليات. وهو ما لا ينفيه ديوكوفيتش نفسه، بل يسلّط عليه الضوء بشكل كبير في كتابه Serve To Win الذي يقدّم فيه خطته الغذائية الممتدة على 14 يوماً والخالية من الغلوتين "للوصول إلى الامتياز الذهني والجسدي".
كل ما سبق عادي، لكن سرد ديوكوفيتش لطريقة اكتشاف حساسيته على الغلوتين هو الذي أثار الريبة، وفتح الأعين على تعامل اللاعب مع جسده وصحته. إذ شرح أنّ خبير الطب البديل إيغور سيتوييفيتش وضع له رغيف خبز على بطنه ليشعر بأنه كلما اقترب من الرغيف زاد الضعف في عضلاته، وهو ما كشف له حساسيته.
تتواصل مآثر اللاعب الصربي مع هذا النوع من التشخيص والطب، لتشمل تعيين المدرب الإسباني واللاعب السابق بيبي إيماز، الذي يؤمن ويبشّر بـ"القوة التغييرية للعناق". وينسب له الفضل بتغيير شخصية ديوكوفيتش من العصبية عند الخسارة، إلى معانقة منافسيه بعد فوزهم. وتطول لائحة التصريحات المصنّفة في خانة الغريبة عن علاقة اللاعب بالطبيعة، وبالجسد البشري، وبمؤثرين يروجون لبعض المكملات الغذائية غير الموافق عليها من المنظمات الصحية الرسمية، وصولاً إلى الفيديو الشهير على "إنستغرام" الذي تحدّث فيه عن تنقية المياه الملوثة بواسطة "الوعي البشري، لأن المياه تستجيب لمشاعرنا". وقد أثار هذا التصريح الأخير موجة غضب عارمة ترجمت بسلسلة تغريدات لأطباء وعلماء على "تويتر" طالبوا فيها اللاعب بالتوقف عن الترويج للخرافات عبر منصة وحساب يتابعهما الملايين.
To be clear, Djokovic himself was the one who first introduced this stuff about water changing from emotions into the conversation on his Instagram, saying that mindfulness can make unhealthy food more nutritious, and that dinner table arguments can make good less nutritious. pic.twitter.com/LyJbJTvb9W
— Ben Rothenberg (@BenRothenberg) May 7, 2020
في زمن آخر، كان يمكن لكل ما يقوله ويفعله نوفاك ديوكوفيتش أن يوضع في خانة المعتقدات الصحية الغريبة أو المختلفة أو حتى الحديثة والمواكبة لشعار "العودة إلى الطبيعة الأم". لكن من سوء حظ اللاعب أن يتزامن تصنيفه أولَ في العالم في كرة المضرب، مع أسوأ وباء يضرب البشرية منذ قرن حاصداً أرواح أكثر من 5 ملايين شخص حول العالم. وهذا ما يقودنا إلى الخط الثاني في قضية اللاعب الصربي.
فشخصية ديوكوفيتش، كانت لتبدو مرحة لو سمحت لها الظروف بأن تنمو وتزدهر في زمن سابق أو لاحق. لكن بينما يصارع العالم الموت نتيجة "كوفيد 19"، فإنّ رفضه للقاح رغم إصابته مرتين بالفيروس، جعل منه ببساطة أيقونة لمناهضي اللقاح حول العالم. هكذا باتت ترفع صوره على حسابات مواقع التواصل التي تروّج لنظرية المؤامرة، وتنظّم باسمه تحركات لرفض إلزامية التطعيم. بهذه الخفة منح اللاعب الصربي عن قصد أو عن غير قصد هؤلاء منصة أكبر، وضوءاً أكبر، وصوتاً أعلى. فبات للحملات الرافضة للقاح وجه بارز، واسم شهير يُستشهد به للدفاع عن وجهة نظر ساهمت في استمرار تفشي الفيروس حتى اليوم.
كل هذه العوامل جعلت من قضية نوفاك ديوكوفيتش قضية غنية للإعلام حول العالم، وما زاد من بريقها القضايا التي دارت في فلكها، من صور المهاجرين الذين تضعهم السلطات الأسترالية في فنادق معينة، بينها الفندق الذي أقام فيه اللاعب في البداية، إلى قوانين الهجرة المتشددة والمذلة التي تعتمدها السلطات في أستراليا، وما بينهما اتهام ديوكوفيتش باعتماد معايير مزدوجة. إذ استعاد الإعلام دعوته لزميلته اليابانية نايومي أوساكا، لاحترام القوانين وإقامة مؤتمرات صحافية حتى لو كان ذلك يضر بصحتها النفسية، بينما هو نفسه رفض احترام القانون الأسترالي الذي يفرض تلقي اللقاح.
على أي حال، فإن "المعركة الأسترالية" قد حسمت في 16 يناير/كانون الثاني الحالي حين غادر اللاعب الصربي أستراليا، معلناً أنه سيأخذ وقتاً مستقطعاً من كل هذه الضجة. لكن للأسف، يبدو أن الضجة الإعلامية حول قضيته لن تنتهي، بل سيستمر النقاش طويلاً، وستصبح قضيته مرجعية عند مناقشة علاقة الرياضة بالوباء وإلزامية اللقاح. وستطرح أسئلة لا متناهية عن مسؤولية الشخصيات العامة، الرياضية منها بشكل خاص، تجاه مجتمعاتها في أزمات كالتي يعرفها العالم حالياً مع فيروس كورونا، وعن إقفال الحدود وفتحها، ومستقبل العالم والسفر والتأشيرات، والجهات التي تتحكّم بهذه الحدود.
لكن هل خرج ديوكوفيتش نفسه من قلب الحدث بعد مغادرة طائرته المجال الجوي الأسترالي؟ الأغلب لا. بل إن الأيام الماضية رسّخت العلاقة الشائكة التي تربطه بالصحافة منذ انطلاق مسيرته في كرة المضرب، هو الذي صرّح مراراً بأنه لا يفهم سبب التمييز ضده في التغطيات الإعلامية، ولا سبب تسليط الضوء على بعض الأخطاء والتصرفات التي يقوم بها، بينما يتغاضى هذا الإعلام نفسه عن أخطاء أكبر للاعبين آخرين.