تحالفت عدة عوامل، لترسم صورة محمد القصبجي في الذهنية العربية المعاصرة، فهو في الصفحات الفنية "الموسيقار المظلوم"، وهو في البرامج الإذاعية "العبقري الذي لم ينل ما يستحق من شهرة"، وهو في التسجيلات المتلفزة ذلك الرجل النحيل الهزيل الممسك بعوده خلف أم كلثوم، المطربة الجبارة القاسية، التي زهدت في ألحان أستاذها، حتى ذبلت قريحته التلحينية، فارتضى لنفسه أن يبقى خلفها "عوّاداً"، يعزف ألحان غيره، من زملائه وأنداده، أو حتى من تلامذته ومن هم في سن أبنائه. وكل ذلك كان سبباً لضعف الاهتمام بمنتج القصبجي بعيداً عن أم كلثوم، ولا سيما بعد أن استغنت سيدة الغناء عن ألحانه المسرحية الكبيرة عام 1940، ثم عن كل ألحانه عقب أغنيات فيلم "فاطمة" عام 1947.
يجد القارئ العربي نفسه أمام صورتين للقصبجي، إذ هو في كل كتابة جادة، وفي كل بحث حقيقي، وفي كل درس أكاديمي، وفي كل رصد لتطور التلحين والغناء في القرن العشرين، وفي كل تأريخ لآلة العود وعازفيها، أحد الأعلام الكبار، الذين صاغوا بجهودهم شكل الغناء والموسيقى خلال القرن الماضي، وهو أحد أهم المجددين الموسيقيين. هكذا هو في كل مصدر معتبر، فإذا انتقل القارئ إلى الجرائد والمجلات وبرامج الفضائيات، ومواقع التواصل الاجتماعي، تحول القصبجي إلى مظلوم مقهور محني على عوده خلف الست، لا يكاد وجهه ينبئ عن مشاعره، بعد أن صار حطام إنسان.
ولعل أقوى الحيثيات التي يسوقها المنحازون إلى فكرة مظلومية القصبجي أن الرجل لم ينل من الشهرة والجماهيرية ما ناله أقرانه؛ محمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، وأن تقدير جهوده التطويرية ظل قاصراً على النخبة من أصحاب الثقافة الموسيقية الرفيعة. والحقيقة أن هذه النخبة، ولا سيما أهل الصحافة، أسهموا - من دون قصد - في تكريس صورة القصبجي المظلوم، إذ كانت جهودهم في فهم تعقيدات علاقته بأم كلثوم، وتوقفها عن أخذ ألحانه، أضعاف جهدهم في دراسة إنتاج الرجل وتسليط الضوء على دوره الكبير في تشكيل موسيقى القرن العشرين، كما أن معظم الكتابات الصحافية رسخت في أذهان الجماهير أن القصبجي توقف بالكلية عن التلحين بعد أن توقفت أم كلثوم عن التعاون معه.
والحقيقة أن القصبجي استطاع مبكراً، وفي مطلع شبابه، أن يكون ضمن أهم الملحنين، الذين يسعى إليهم كبار المطربين، قبل أن تأتي أم كلثوم إلى القاهرة، كما أنه اشتهر مبكراً أيضاً بقدرته الفائقة في العزف على العود، حتى تسابقت شركات الإسطوانات على تسجيل عزفه. وبعد تعرفه إلى أم كلثوم، وانطلاق مشروعه معها، وارتباط اسمه بها، وخلال فترة التعاون التلحيني بينهما، لم يتوقف يوماً عن التلحين لمطربين غيرها، قبل "رق الحبيب" وبعدها، وقبل أغاني فيلم "فاطمة" وبعدها. نعم، قل إنتاجه، بعد عام 1947، لكنه لم يتوقف أو ينته، فقد استمر عطاؤه الفني - ولو في حدوده الدنيا - إلى أوائل الستينيات.
كان القصبجي ركناً مهماً من الأركان الثلاثة لفريق أم كلثوم التلحيني، برفقة زكريا أحمد ورياض السنباطي، ولأن أم كلثوم كانت كالشمس التي إذا طلعت أخفت النجوم من سماء الدنيا، فإن أعمال ملحنيها لغيرها كانت تتأثر بالوهج الكلثومي، فالمستمع العادي لا يعرف من ألحان زكريا إلا ما شدت به الكوكب. وإشكالية ألحان السنباطي لغير سيدة الغناء معروفة: هل هي ألحان دون مستوى ما يقدمه لأم كلثوم؟ أم أنها ألحان بنفس المستوى لم تجد أداء بعظمة الأداء الكلثومي؟
عند الجمهور الواسع، فإن أبرز عشرة ألحان لزكريا أحمد ستكون مما صاغه لأم كلثوم، وأهم عشرة ألحان للسنباطي، بل أعظم عشرين أو ثلاثين لحناً ستكون مما صاغه لها. لكن محمد القصبجي كان متفرداً في الإفلات من هذه الهيمنة، ولا ريب أن ألحانه العشرة الأهم ستشمل أعمالاً لأسمهان وليلى مراد، وربما غيرهما، وبعض هذه الألحان جاء في الفترة التي يرى أنصار "المظلومية" أنها فترة توقفه ونضوب قريحته، خاصة عند من يحسبون تاريخ امتناع أم كلثوم عن ألحانه بالأعمال المحفلية، أي بتاريخ إطلاق "رق الحبيب" عام 1940. وفي كل حال، فإن جماهير اليوم بحاجة إلى التذكير بإبداع هذا الملحن الفذ بعيداً عن صوت أم كلثوم وأدائها "المستبد".
مثّل منولوج "يا طيور"، الذي شدت به أسمهان، نقطة مفصلية في تاريخ القصبجي، بل في تاريخ الغناء العربي كله، إذ ليس له نظير ولا حتى شبيه عربي قبله، ولم يستطع أحد أن ينسج على منواله بعده. استطاع القصبجي أن يعيد اكتشاف صوت أسمهان، وأن يبلغ به أقصى طاقاته الأدائية والتعبيرية.
نعم، تأثر الرجل بأداء السوبرانو الألمانية الشهيرة أرنا زاك، وأراد أن يقدم نسخة عربية من هذا النمط الغنائي، الذي تحاكي فيه الحنجرة البشرية تغريد الطيور والبلابل، لكن ما فعله القصبجي لم يكن مجرد "اقتباس"، إذ الأمر أعقد من ذلك وأخطر. مزيج من التفكير الأوركسترالي، الهارموني، الكروماتيك، نغمات شرقية، إيقاع غربي، دمج كامل للتغريدات المستلهمة ذات الطابع الغربي في المنولوج ليشكل وحدة تلحينية متماسكة، كان كل ذلك عام 1940، لكن الدهشة من هذا اللحن بقيت إلى اليوم.
يستسهل بعض الكتاب الجزم بأن منولوج "يا طيور" كان السبب الرئيس في إعراض أم كلثوم عن ألحان القصبجي المطولة المسرحية، واكتفائها بمنحه بعض ألحان أغاني أفلامها، وبالطبع لا يقدم أصحاب هذا القول دليلا إلا التزامن بين ظهور "يا طيور" وبين الجفوة الكلثومية تجاه القصبجي. وبغض النظر عن تماسك أو تهافت هذا الزعم، إلا أنه يشير إلى حجم "الصدمة" التي أحدثها القصبجي في الحياة الفنية بهذا اللحن الاستثنائي. كان القصبجي أخطر من تعامل مع صوت أسمهان، بإقرار شقيقها فريد الأطرش.
وفي عام 1947، ستغني ليلى مراد من ألحان القصبجي: "قلبي دليلي"، ضمن فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم. جاء اللحن على إيقاع الفالس، مفعماً بالحيوية، وقدمته ليلى مراد في استعراض راقص مع أنور وجدي. نجح العمل نجاحاً مدوياً، وأثبت قدرته على البقاء والاستمرار لعقود طويلة، وكانت رشاقة اللحن وسهولته سبباً لتكرار أدائه من المطربين الجدد على المسارح وفي برامج التليفزيون حتى اليوم.
وفي نفس الفيلم، قدم القصبجي لليلى مراد أغنية أضحك "كركر"، وهو أيضاً من الأعمال التي لم تمت. كانت ليلى مراد صاحبة النصيب الأكبر من هذا اللون السينمائي النشط، فمن قبل هذا التاريخ بسنوات خمس، وفي فيلم "ليلى" عام 1942، لحن القصبجي أغنية "بتبص لي كده ليه"، وبعد ذلك بسنوات، يشترك القصبجي في تلحين أغنيات فيلم شاطئ الغرام، فتغني ليلى مراد له "ياختي عليه" و"نعيماً ياً حبيبي".
كان القصبجي من أهم رواد تلحين الأغنية السينمائية، فاشترك في ألحان أغنيات 38 فيلماً، لكن إنتاجه يتخطى "الجانب الكمي"، فقد استطاع الرجل أن يمنح المستمع شعوراً فورياً بتقدمية ألحانه، وبسبقه عصره. حتى إن بعض الأعمال التي تواجه شيئاً من الإهمال أو النسيان، يُعاد اكتشافها فتخرج إلى دائرة الصدارة والاهتمام، لتكون دليلاً إضافياً على عبقرية القصبجي وسبقه.
ومن أمثلة تلك الأعمال التي نسيت لسنوات ثم استعادتها الأجيال الجديدة، "يا ترى نسي ليه معادي وغاب"، تلك الطقطوقة البديعة التي لحنها لمطربة القطرين فتحية أحمد ضمن أغنيات فيلم "حنان" عام 1944. وهي أيضاً على إيقاع الفالس.
خلال سنوات نجاحه الكبير مع أم كلثوم، لم يتوقف قصب عن منح الألحان للأصوات التي يقتنع بقدرتها، واستمر كذلك خلال مرحلة الامتناع الكلثومي، ليتغنى بألحانه كبار النجوم، ومن بينهم تمثيلاً لا حصراً: رجاء عبده، وصباح، ونور الهدى، ونجاة علي، وشهرزاد، وهدى سلطان، وسعاد محمد، وعصمت عبد العليم، ونازك، وعباس البليدي، وسعاد مكاوي، وملك محمد، وصالح عبد الحي، وسكينة حسن، وحياة محمد، ومن قبل هؤلاء منيرة المهدية، سلطانة الطرب، التي منحها القصبجي عدداً من أنجح أغنياتها.
إذن، لم يتوقف القصبجي عن التلحين، بصورة نهائية، إلا في السنوات الأخيرة من حياته، ولأسباب صحية. لم يعد ذلك الشلال النغمي الهادر، ولم تتضمن أعماله بعد "القطيعة" ألحاناً استثنائية، مع الأخذ في الاعتبار أن أعمالاً من مستوى "رق الحبيب" لأم كلثوم، أو "يا طيور" لأسمهان، ليست مما يمكن تكراره والبقاء عند مستواه بسهولة، حتى في أفضل الظروف المزاجية والفنية. لكن قصب استمر، وربما لا يعرف كثيرون أن الرجل لحن قصيدة لوردة الجزائرية عام 1960، هي "إياك نعبد ما حيينا" من شعر أحمد مخيمر.
ويبقى الواجب التأريخي والنقدي تجاه القصبجي، بحاجة إلى ضبط إعادة ضبط البوصلة، للتحول الجهود من سؤال: لماذا لم يلحن؟ إلى سؤال: كيف لحن؟ إذ إننا في النهاية أمام إنتاج كبير بالغ الأهمية عميق الأثر، ودراسة هذا الإنتاج أولى بالجهد والوقت الذي بذل ويبذل في محاولات كشف أسباب موقف أم كلثوم تجاه ألحانه، في إصرار عربي لا ينتهي على الاحتفاء بالمفقود، ولو على حساب إهمال الموجود.