عشرة أيام مرّت على إصدار محمد منير أغنية "أبطالنا رجالة"، التي وجّه فيها تحية إلى عناصر الشرطة المصرية في عيدهم السنوي، في 25 يناير/ كانون الثاني من كل سنة. اختار منير إصدار أغنيته في اليوم نفسه الذي كان يستعيد فيه المصريون لذكرى أخرى، ومناسبة أخرى: مرور 10 سنوات على ثورة 25 يناير 2011.
هذه الإشكالية تختصر ربما الازدواجية التي ترافق هذا اليوم كل عام. وهي الازدواجية التي ظهرت عام 2014، فبات مناصرو النظام يتعاملون معه كعيد للشرطة، بينما يتعامل معارضوه معه كيوم ثورتهم. نترك الاصطفاف السياسي، ونعود إلى محمد منير. كتب الكثير في العقد الأخير عن نفاق "الكينغ" وعن تماهيه مع نظام المخلوع محمد حسني مبارك، ثم نظام عبد الفتاح السيسي، وبينهما عن استغلاله لثورة يناير.
الثورة التي تأخّر في إظهار تأييده لها لأيام طويلة، ولم يكشف عن أي موقف إلا بعدما بات رحيل حسني مبارك محسوماً. وقتها قال منير إنه كان يعاني من عارضٍ صحي أبعده عن الميدان. وكتأكيد على موقفه المساند للثورة، طرح أغنيته "إزاي" (كلمات: نصر الدين ناجي، ألحان: أحمد فرحات)، مطلع شهر فبراير/ شباط 2011. حاول كثيرون تجاهل هذا النفاق مجدداً. إذ قُدّمت الأغنية كعمل ثوري متماهٍ مع روح الميدان. لكن ما تبيّن لاحقاً هو أن العمل سجّل أساساً في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، من دون أن يذاع. واستغلال الأحداث وقتها فقط جعلها تصدر في ذلك التوقيت. منذ تلك الأغنية، ومنذ تلك السنة، وذاك الميدان، بقي سؤال واحد يلاحق منير وإرثه وأغانيه: هل كان صاحب "حدوتة مصرية" و"طفي النور يا بهية"، و"ساح يا بداح" في أي يومٍ من الأيام ثورياً؟ الإجابة المختصرة والحاسمة هي لا. لكن، وإن لم يكن يوماً فناناً ثورياً، إلا أن الأكيد أنه فنان ذكيّ ومجتهد، وصاحب صوت ولهجة مميزَين ولا شبيه لهما منذ أكثر من 3 عقود. وجاء منير في فترة مأزومة للأغنية المصرية عجزت فيها عن ملء الفراغ الذي تركه غياب عبد الحليم حافظ وأم كلثوم.
ملء هذا الفراغ بدا كأنه يحتاج إلى موسيقى مختلفة. وبالفعل عرفت تلك الفترة تغيراً في الأغنية المصرية التي بدأت تتخذ قالباً معيناً. كذلك برز دور للموزع الموسيقي كمساهم أساسي في نجاح العمل. هكذا لجأ المغنون الشباب في تلك الفترة إلى قوالب غربية أو عربية تأثروا بها، وبدأت محاولات "تمصير" هذه القوالب. والأهم كان خسارة الأغنية الطويلة لمكانتها، فبات متوسط مدة العمل 5 دقائق، يجب فيها على صنّاع الأغنية اللعب على الكلام واللحن والـriff (جملة موسيقية تعاد أكثر من مرة)، والاعتماد على هذا "اللعب" لجذب المستمع إلى الراديو والتلفزيون، ودفعه إلى شراء شريط الكاسيت الذي كان الوسيط الأهم عالمياً لسماع الموسيقى وتحقيق الإيرادات. محمد منير نجح في ذلك بشكل كبير، وعرف كيف يستفيد مما يتطلع إليه المستمع. فنرى الـriff يتكرّر في أكثر من عمل له، مثل "قد وقد"، التي نستمع في بدايتها إلى جملة تعاد بالغيتار الكهربائي أكثر من مرة، وهي الجملة التي بنيت عليها الأغنية. وكان واضحاً أن مؤلف الموسيقى يحيى خليل تأثر بأغنية "كاميليون" لهيربي هانكوك.
لكنّ نجاح منير لم يكن مرتبطاً فقط بالموسيقى، بل بالمضمون الذي قدّمه في الكلمات. هنا يأتي دور الملحن والموسيقي النوبي أحمد منيب، الأب الروحي لمنير. منيب كان شيوعياً وزائراً دائماً للسجون، وقد تجاور في الزنزانة مع عبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور... وهذا الأخير هو صاحب كل الأغاني "الثورية" التي أعطت صورة تقدمية ومتحررة لمحمد منير، مثل "حدوتة مصرية"، و"ع المدينة"، و"اتكلمي"، و"الكون كله بيدور"، و"بنتولد"، و"هيلا هيلا"...
راكم منير إذاً رصيداً من الأغاني الثورية، أغاني المصريين المكبوتين والمقموعين، لكنه في الوقت نفسه، في لحظات الشهرة والمجد نفسها، كان يقف أمام النظام، أمام رئيس الجمهورية وزوجته، وعلى المسارح الرسمية مؤدياً أغانيه "غير الثورية".
في تشبيه بسيط، محمد منير هو النسخة الموسيقية من عادل إمام. الإثنان يمثلان ويغنيان ضد بعض تصرفات النظام أو بعض عناصره، لكنهما ليسا ضد النظام، على المبدأ العربي الشهير "الرئيس جيد، لكن المحيطين به سيئون".
محمد منير ليس الشيخ إمام ولا سيد درويش، تماماً كما أن عادل إمام لم يكن يوماً سعيد صالح، الذي سجن بسبب أغانيه وأدواره ومواقفه.
نهاية الثمانينيات شهدت نهاية التعاون "الثوري" بين محمد منير وعبد الرحيم منصور، وأحمد منيب، وفرقة يحيى خليل، ودخل منير مرحلة الإنتاج التجاري الصرف، وعصر الريميكس للأغاني. فعلى الطريقة البائسة والرديئة نفسها في إعادة توزيع أغاني أحمد عدوية، ووردة، ومحمد رشدي، بزيادة الإيقاعات والتكّات على اللحن الإساسي، مع الريميكس بدت أغاني منير فقيرة وفاقدة لبريقها. خلال كل هذه السنوات اختار منير الطريق الذي أوصله للشهرة والنجاح والثراء، وهو حرّ في خياراته عموماً. وهي الخيارات التي يصرّ جمهوره على تجاهلها ويكمل التعامل معه على أنه فنان "ثوري"، و"معارض" ويريد تغيير العالم"، علماً أن منير لم يقل يوماً أياً من كل ما سبق لا في السرّ ولا في العلن.