في سلسلتها الوثائقية "مُصوّرو فلسطين" (2020)، المعروضة مؤخّراً في 6 حلقات على شاشة "الجزيرة الوثائقية"، تغوص المُخرجة الفلسطينية مروة جبارة الطيبي في تاريخ المدوّنة الفوتوغرافية الفلسطينيّة، بالوقوف عند سِيَر فوتوغرافية طبعت تاريخ الصورة في فلسطين. يتعلّق الأمر بالجيل الأول من الفوتوغرافيين، مؤسّسي المسار الفني والوعي الجمالي لصورة مُتخيّلة، لكنّها مُنتزعة من الواقع الفلسطيني.
في السلسلة تلك، تتعدّد مناظر مبانٍ دينية وأثريّة، شاهدة على تاريخ جريح. الصورة، التي شكّلت منطلق البحث والحلقات، تُؤكّد نظرة ذكية لمروة جبارة، وقدرتها على أخذ تفاصيل صغيرة من حياة المُصوّر الفوتوغرافي، ووضعها على شكل سيرة توثيقية ومُتخيّلة في آنٍ واحد.
جمالياً، تُظهر مروة جبارة فلسطين بأكثر من عين وعدسة وأرشيف فوتوغرافي، عاملة على إقامة حدود فاصلة بين التوثيق والتخييل. هذا مهمّ جداً، يكتسي عنصراً أساسياً في السلسلة، التي عطّلت بحِرفية كلّ الأشكال التقريرية المُباشرة، التي تُضعف قيمة العمل، وتَحدّ من مدى تأثيره وتوغّله في النسيج البصري الفلسطيني.
بمناسبة سلسلتها الوثائقية تلك، التقت "العربي الجديد" مروة جبارة الطيبي في هذا الحوار:
(*) كيف جاء هذا الاهتمام بعوالم الفوتوغرافيا الفلسطينيّة ومُتخيّلها، في سلسلتك الوثائقية الجديدة "مُصوّرو فلسطين"؟
ـ استهوتني الصورة دائماً. كانت مركز حياتي منذ طفولتي، وفي مسيرتي الصحافية. كانت وسيلة الاتصال والتعرّف إلى والدتي، التي رحلت قبل تجاوزي 4 أعوام. بفضل الصُوَر، تعرّفت إلى أمي، وتواصلت معها. الصورة هدف المخابرات الإسرائيلية، حين اقتاد عناصرها والدي إلى التحقيق. في كلّ اعتقال، وكلّ أمر لتفتيش بيتنا، الصُور هدف. كانت تُصادَر كمواد تحريضية وأدلة لإدانة والدي. حين امتهنت الصحافة، كانت الصورة غايتي. في 25 عاماً من العمل الصحافي في شبكات أجنبية، كـ RTI وCTV وCNN، كانت الصورة سيّدة الموقف. عشتُ لحظات التقاطها بأفراحها وأتراحها، وبلحظاتها التاريخية المُشرِّفة والمؤلمة. لاحظتُ أهميتها في تشكيل الرأي العام العالمي، والوعي الجمعي الفلسطيني. عشتُ التقاط صُور أيقونية، باتت رموزاً، وشكّلت المعرفة، ووثّقت مرحلة تاريخية. لذلك، عندما قرّرت خوض العمل الوثائقي، كان لا بدّ لي من وقفة وتأمّل في الصورة، ومع صانعيها. بدأتُ بالمعاصرين، ثم الطلائعيين. خرجتُ بسلسلة أعرّف فيها المُصوّرين من القرن الـ19 إلى الآن.
(*) المُلاحظ في السلسلة تركيزك على أسماء مُحدّدة، أسّست مسار الوعي الفوتوغرافي في فلسطين، في مراحل باكرة من تاريخ البلد. ما حدود التقاطع السياسي والتلاقي الجمالي، لدى كل من ناصر سابا وكريمة عبّود وخليل رعد، مثلاً؟
ـ عندما بدأتُ البحث، كان هدفي الوصول إلى الصورة الفلسطينية الأولى، المُنجزة لاستبدال تصوير فلسطين بعيون مستشرقين، وثّقوا فلسطين من خلال الأماكن الدينية، بعيداً عن، أو مع تجاهل مقصودٍ، لكلّ مناحي الحياة. عثرتُ على صورة ملتقطة عام 1880، وموقّعة "نون سابا". لم أكن أعرف اسمه الأول. قادتني الصورة إلى ملتقطها، ناصر سابا، عام 1861. الصورة مطبوعة على ورق ألبومين، مصنوع من زلال البيض. هذا مؤشّر على الفترة الزمنية لالتقاطها، أي الثلث الأخير من القرن 19. البطاقات البريدية لم تُقسّم إلى قسمين، وهذا يُشير أيضاً إلى الفترة نفسها، بالإضافة إلى أختامٍ بريدية وطوابع أكّدت ذلك.
عام 1901، أكمل سابا الابن، أي فضيل، مشوار والده، الراحل باكراً. تعرّف في أعماله إلى كريمة عبود (1893) وخليل رعد (1854)، اللذين استخدما الأدوات نفسها، وكانا ناشطين في الفترة نفسها تقريباً. هؤلاء صوّروا الأماكن نفسها، وصمّموا بطاقات بريدية متشابهة عن تلك الأماكن، كالناصرة وطبريا وبيت لحم والقدس، وآثار دينية، مستهدفين السياحة الدينية في فلسطين.
كلّ واحدٍ منهم امتاز بخصال، وكانت له اهتمامات مختلفة: تميّزت كريمة بالقدرة على دخول البيوت، والتجوّل في الأماكن التاريخية؛ وفضيل بتصوير البعثات الأثرية. بدا رعد أكثرهم مهنيّة، وصُوره في الاستديو تشير إلى مستوى فريد من نوعه في تصوير البورتريهات. الإرث الكبير الذي تركه، وآلاف الأشرطة الزجاجية ـ النغاتيف والبوزتيف ـ تدلّ على مهنيّة لا مثيل لها حينها. هناك الكتالوغات التي تضمّ صُوره من الأرض المقدسة، ودليل سياحي مُصوّر لتشجيع السياحة في فلسطين. كريمة لم تعش مرارة النكبة، إذْ غادرت عام 1940، لكنّ صُورها حالة مقاومة، تعكس تفاصيل حياة غنية قبل النكبة، أراد الاحتلال محوها من الذاكرة. خليل رعد شرّدته النكبة، فاستقرّ في بيروت.
نهب الاحتلال قسماً كبيراً من محتويات الاستديو الخاص بخليل رعد غداة النكبة. فضيل سابا تراجعت أعماله، ولم يستطع التكيّف مع الحكم العسكري لبلده، فهاجر إلى أميركا، وتابع مهنة التصوير نحو عام.
للأسف، نجح الاحتلال في تعتيم عدسات رعد وسابا، وغيرهما.
(*) ما هي المدّة التي تطلّبها السيناريو، إعداداً وكتابة؟ ما الصعوبات التي اعترضت عملك، بالنسبة إلى اختيار الضيوف، واللقطات المُؤثّرة؟
ـ الصعوبة الكبرى تتمثّل في البحث عن الأرشيف المفقود لهؤلاء المُصوّرين الطلائعيين، فالبحث استغرق 3 أعوام، وصلت فيها إلى أرشيفات خاصة، اعتمدها كلّياً، تقريباً. كان عليّ التأكّد من مصداقية الأرشيف، فهناك من عرض عليّ أرشيفاً مزيّفاً لأحد الطلائعيين. طبعاً، لم أستخدم صُوره، ولم أذكر هذا في السلسلة، كي لا يُسلّط الضوء على المزيّف بدلاً من الشخصية الرئيسية، أيّ المُصوّر والمُصوّرة الطلائعيين، وكي لا يكون الحديث عن أرشيفٍ مزيّف بل عن تاريخٍ، وعن صانع تاريخ ومُحافظٍ عليه بصُوره.
اختيار الضيوف تمّ بناءً على علاقاتهم ومدى قربهم من الشخصيات، أهلاً أو أصدقاء عاشوا معها، أو بحثوا مباشرة عنها. تمكّنت من لقاء أكثر الباحثين شغفاً ومعرفةً بالشخصيات: مثلاً، فيلم خليل رعد. التقيتُ عصام نصار، من أوائل من كتب عن رعد وبحث في أرشيفه. سليم تماري متخصّص بالصورة، وأحد القائمين على أرشيف رعد، المُكوّن من آلاف الصُور، في مؤسّسة الدراسات. هالة أمينة المكتبة، التي تشمل أرشيف رعد في بيروت. الفنانة التشكيلية فيرا تماري كانت القيّمة على أهم المعارض المُقامة لأرشيف رعد. بالإضافة إلى جامع الصُور بو عزّ، الذي لديه أكبر مجموعة خاصة لرعد.
لكنْ، لا بُدّ من الإشارة إلى صعوبة التنقّل بسبب كورونا، التي حالت دون تمكّننا من السفر إلى بيروت وولاية إيلينوي، والتي أجبرتنا على تصوير اللقاءات عبر تقنية "زوم".
اختيار اللقطات واللغة البصرية لكلّ فيلم، قادتها الصورة والقصّة معاً. في حلقة سابا، هناك صُورٌ شاهدةٌ على قرى دُمّرت عام 1948. قرّرتُ محاكاتها لإظهار غياب القرية التي دمّرها الإسرائيليون. هناك صورة موقّعة بنون سابا، فرضت عليّ تصوير البحث عن صاحبها في ملفّات كنيسة العائلة في الناصرة. هذه من أكثر اللقطات المؤثّرة في الفيلم.
مسار التحقيق تناغم مع مسار التعريف بالشخصية من خلال الصُور والأرشيف الخاص بها. المعالجة البصرية في "المشهد الأخير" حدّدت مسار الفيلم، الذي بدأ باستهداف نائل بالرصاص وإنقاذه، واستهداف مازن أيضاً، واستشهاده. بين المشهدين، تُروى قصّة صديقين تبادلا العمل على كاميرا واحدة، ولقيا مصيرين مختلفين. في فيلم كريمة عبود، كنتُ محظوظة بأنّ التصوير تمّ عام 2019، وكان عاماً غنيّاً بالنشاطات والمعارض والمسابقات والإصدارات الخاصة بكريمة. وظّفتُ هذا كلّه لسرد قصّتها، الذي (السرد) بدأ وانتهى بقراءة "ثلاثية الأجراس" بصوت مؤلّفها إبراهيم نصر الله. انتقلتُ من ندوة إلى مسابقة فمعرض، لسرد القصّة، بعيش أحداثها المختلفة.