رغم عدم تطرقها إلى القضايا السياسية والفترة الأكثر حساسية في حياة ميخائيل غورباتشوف (89 عاماً) آخر زعيم سوفيتي، أثار عرض المسرحية التي حملت اسمه جدلاً واسعاً في روسيا.
وأعادت النقاشات حول دوره في التاريخ انقساماً مجتمعياً حاداً ما تزال آثاره موجودة حتى الآن، بين من يرى أن سياسة "غلاسنوست" (الانفتاح) و"بيرسترويكا" (إعادة البناء) جاءت ضمن مؤامرة غربية لإنهاء الاتحاد السوفيتي، وآخرين مقتنعين أن غورباتشوف سعى إلى إصلاح الخلل في "الماكينة السوفيتية المهترئة"، لكنه فشل بفعل الصراع بين بيروقراطيين شيوعيين متمسكين بالمناصب، وإصلاحيين لم يروا أي طريق للخلاص إلا بتقليد الغرب، وتبني قيمه ونظرياته الاقتصادية كاملة، رغم عدم استعداد البلاد لهذا المنعطف الكبير.
ومع أن المسرحية لم تقدم إسقاطات على الواقع الحالي لروسيا، فإنها تطرح أسئلة حول مصير بلاد تعاني من انعدام هوية فكرية وسياسية واقتصادية واضحة، بعد قرابة ثلاثة عقود على انتهاء حكم غورباتشوف والاتحاد السوفيتي، وعدم قدرة النخب السياسية على تحقيق طموح الروس ببناء دولة قوية تراعي الحريات السياسية العامة للمواطنين، وتحافظ على منجزات الحقبة السوفيتية الاجتماعية.
ورغم إعجاب آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، نفسه بالمسرحية التي روت رحلة حياته مع زوجته الراحلة رايسا، إلا أن ممثلي حزب "شيوعيو روسيا"، أعربوا عن استيائهم من العمل الفني، وطالبوا وزارة الثقافة الروسية بمنع عرضه في البلاد، مؤكدين أن المسرحية "ضربة للذاكرة التاريخية، وتهين جميع الروس الذين عانوا من تضحيات كبيرة بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي".
بدأ عرض مسرحية "غورباتشوف" للمخرج اللاتفي ألفيس هيرمانيس، يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأوّل على خشبة "مسرح الأمم" في العاصمة موسكو. والمسرحية من بطولة يفغيني ميرونوف في دور ميخائيل غورباتشوف، وتشولبان خاماتوفا في دور رايسا ماكسيموفنا، وتعد أول عمل في تاريخ المسرح الروسي يروي وقائع حياة رجل قلب مصير البلاد ودخل التاريخ العالمي، وما يزال على قيد الحياة.
وتتكون المسرحية من قصص صغيرة عن حياة الزوجين غورباتشوف، ولا تضم مشاهدها ممثلين سوى ميرونوف وخاماتوفا. ورغم الدور المحوري لغورباتشوف في تاريخ البلاد، إلا أن السياسة وأحداثها التاريخية لا تلعب دوراً رئيسياً في العمل، ولا تزيد عن كونها مجرد خلفية تاريخية تتطور على أساسها العلاقة بين الزوجين.
وتبدأ المسرحية بنوع من المقدمة، من الأيام الأخيرة في حياة رايسا غورباتشوفا في عيادة ألمانية، قبيل وفاتها بسرطان الدم عام 1999. ويظهر ممثلا الدورين الرئيسيين والوحيدين، ميرونوف وخاماتوفا، متباعدين قليلاً، ويتحدثان في شكل منفصل عن الألم وتلاشي الأمل، وتتحدث خاماتوفا في دور رايسا عن حقيقة أنها كانت بحاجة فقط إلى حضور زوجها كدعم، بصبره وصوته ويديه.
وتتنقل مشاهد المسرحية على مدى ثلاث ساعات، لتروي تفاصيل الحياة الزوجية للبطلين، على خلفية رحلة حياته الطويلة من موظف إقليمي متواضع في اتحاد الشباب الشيوعي إلى عضو في المكتب السياسي للحزب، وصولاً إلى انتخابه لمنصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي وفترة حكمه البلاد ست سنوات، واستقالته في 1991.
إلا أن التركيز الأساسي للأحداث يبتعد عن السياسة ومجرياتها، وخاصة في الفترة بين 1985 و1991 ليتطرق بشكل أكبر وأوسع إلى تفاصيل الحياة الخاصة والشخصية، ليتعرف المشاهد على الجانب الآخر من حياة الزوجين غورباتشوف، مثل عدد جيران ميخائيل، الطالب في غرفة السكن الجامعي، وقصة حذاء زفاف رايسا المستأجر.
ميخائيل غورباتشوف شاهد عرض المسرحية رغم ظروف كورونا، وصفق للممثلين، بعدما حضر سابقاً بروفة كاملة، وأعرب بعدها عن إعجابه الكبير بالعمل الفني وتأثره به، مؤكداً أن الممثلة تشولبان خاماتوفا "لعبت الدور بشكل رائع"، ما خلق لديه انطباعا بأنها زوجته "رايسا ماكسيموفنا على قيد الحياة"، وفق ما نقلته وكالة "نوفوستي" عن فلاديمير بولياكوف، المتحدث الرسمي باسم "مؤسسة غورباتشوف".
ويبدو أن نظرة النقاد الفنيين الإيجابية من ممثلي الوسط الفني وانطباع غورباتشوف الجيد عن المسرحية لم يقنعا ممثلي حزب "شيوعيو روسيا" الذين انهالوا عليها بالانتقادات، وأرسلوا إلى وزارة الثقافة الروسية خطابا يطالبون فيه بالحظر الفوري لهذا العمل على أراضي البلاد.
وردًا على مطالب "شيوعيو روسيا"، انتقدت "مؤسسة غورباتشوف" الدعوة لحظر عرض مسرحية "غورباتشوف". ووصف السكرتير الصحافي للمؤسسة، بافيل بالاتشينكو، هذه الدعوات بأنها "محاولة لفرض الرقابة"، وهو أمر غير مقبول برأيه.
ومن اللافت أن مسرحية "غورباتشوف" ليست العمل الفني الأول عن تاريخ الحقبة السوفيتية الذي ينتقده الشيوعيون الروس ويطالبون بحظره، إذ طالبوا في إبريل/ نيسان الماضي، بحظر عرض مسلسل "زليخة تفتح عينيها"، الذي لعبت الممثلة خاماتوفا أيضا دور البطولة فيه.
وأثار حينها جدلاً واسعاً حول مفاهيم الوطنية، والمراجعة النقدية لوقائع مرحلة حساسة في تاريخ بناء الدولة السوفيتية، وتجارب الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين عبر نزع أملاك الإقطاعيين ومعارضي "الثورة"، وإسقاط أبسط حقوقهم المدنية والإنسانية، وإرسالهم إلى سيبيريا لبناء "جنة الشيوعية" في أدغال التايغا في رحلة فاحت منها رائحة المرض والجوع، وذهب ضحيتها ملايين السوفييت على اختلاف قومياتهم وأعراقهم ومراكزهم الاجتماعية والعلمية والثقافية.