ثماني حلقات مشوقة ومشبعة بمفردات درامية منضبطة الأدوات، قدمها لنا المسلسل السوري "قيد مجهول". وعندما نذكر الأدوات، فإنّنا سنمتنع عن ذكر بعض الهفوات لصالح الناتج العام، ونكتفي بالإشارة إلى القدرات المعهودة التي باتت الدراما السورية على موعد جديد معها في الأعمال المرتقبة والسنوات المقبلة، من دون أن يكون هناك حجب متعمد لعدد ضئيل من الأعمال السابقة، التي رفعنا القبعة لها أمام الهبوط المتلاحق، الذي أصاب الدراما السورية منذ بدء الثورة (2011).
تجربة متجددة، لا تحتاج إلى واقع بالغ التشوه والتأزم، للغوص فيها درامياً. لكنّ المرور بهامش هذا الواقع كفيل بأن يخلق لنا واقعاً مغايراً، مؤثراً، إذا ما كانت مفاتيحه تغازل أبواب المستور فيه. فواقع الحال السوري ليس رهين الشاشة الفضية بمطلقه، إذا ما عرفت الكاميرا كيف تبسط سطوتها بحنكة، في انتقاء الأجواء المناسبة، والبطل كيف يختزل بأدائه وشخصيته، اختلاجات المواطن وعذاباته، نفسياً وفكرياً ومعيشياً، فيغدو التزام مشروع قصة، تتواطأ فيها الموسيقى والألوان، مع الحكاية الأساسية، مشروطاً بتناغم سينجح المخرج السدير مسعود وأداء بطله عبد المنعم عمايري، في تحقيقه، من دون الرهان على الحبكات الفرعية التي ما إن قادت الحكاية في مطلعها، حتى خضعت لقبضة التشويق بقيادة مسعود وعمايري.
الحكايات الفرعية لها وقع خاص. أشخاص اعتباريون متورطون بقضايا فساد. عالم الغناء والإنتاج الفني مفاتيحها. فجريمة قتل غامضة، ضحيتها تاجر أسلحة كبير يدعى "مثنى الفيصل" (الممثل السوري ميلاد يوسف) تفتح باباً لتفاصيل أخرى تقود عملية التشويق والإثارة، على نار حامية، ترفع من لهيبها، في الجانب الآخر من الحياة المخملية، شخصية سمير عبد الرحيم (عمايري) الخياط وسائق التاكسي الفقير والجبان.
عالمان متوازيان في إطار غامض، سنتعرف خلاله إلى شكل التفاوت السخيف لحجم الأزمات وشكلها لدى طبقة الأغنياء مقارنة بطبقة الفقراء في المجتمع السوري. تهريب آثار وأسلحة ومناكفات وكيديات ومصالح مشتركة بين كبار رجال الدولة والتجار.
بينما، في المقلب الآخر، مواطنون تعسون يكابدون مشقات الحياة ومآسيها، التي أفرزتها الحرب السورية. أغنياء لا يكترثون بالقوانين والمحرمات والضوابط القانونية، ويستبيحون الهدم على حساب الثروة والمال والمقام، وشخصيات معدمة تبحث عن الغاز ولقمة العيش والهجرة من واقع مأساوي.
هناك خيط رفيع يمسك بالأحداث ويحركها. خيط متماسك ومبهم، لن يكون في وسع المشاهد الذكي التعرف إليه بسهولة. وهذا الانطباع يشاركنا به البطل قائد الأحداث وخفاياها. فهو في قرارة دوره لا يعلم ما تقترفه يداه من تصرفات وجرائم، فما بالك بالمشاهد؟ وهنا، انعكاس لعنوان المسلسل، إذ تُرجِم بلغة درامية خاصة، أفرغت شخصية سمير من شكليته، وأعاد المخرج صياغته بموضوعية.
عمد المخرج، مسعود السدير، إلى توفيق مقاطع موسيقية مناسبة نجحت في تحريض المشاعر بأشكالها المختلفة، وتقديم تقنيات تصويرية عالية الجودة
سندخل إلى عوالم نفسية مظلمة وقاسية، عبر تفاصيل حياة سمير وشخصيته المطروحة بدقة عالية. عوالم بارك لها المخرج بعدسته لتظهر متساوية الوزن مع الأداء. فبطلنا مصاب بمرض نفسي يدعى "اضطراب الشخصية التفارقي". وكي لا نشرح عنه كثيراً، يكفي تلمس بعض جوانبه، التي استُعير بعض سماته، في أفلام مارتن سكورسيزي ("تاكسي درايفر" لروبرت دينيرو) وتود فيليبس ("جوكر" لواكين فينكس) وديفيد فينشر ("فايت كلوب" لإدوارد نورتون وبراد بيت). وبسبب هذا المرض، الذي يجعل بطلنا في قلق وخوف دائمين نتيجة صدمة نفسية أصابته في مرحلة المراهقة، جعلته يتخيل شخوصاً آخرين يخوضون عنه ما يخشاه ويهابه أمام حياة الذل والقنوط والاستلاب، سنسبح بتفاصيل الحكاية، فنتعرف إلى يزن (الممثل السوري باسل خياط) الشخصية الوهمية النقيضة لسمير. شخصية جريئة وواثقة ومرحة ومتهورة، لبثّ التوازن الذي سعى إليه إيقاع العمل وحبكته من البداية حتى النهاية، فنجح كلّ من سمير ويزن في خلق شخصيتين متلازمتين تحرضان المشاهد على التماهي معهما والتفاني في تصديقهما والتعاطف لغاياتهما، توازيهما براعة عدسة المخرج.
في هذا السياق، عمد المخرج، مسعود السدير، إلى توفيق مقاطع موسيقية مناسبة نجحت في تحريض المشاعر بأشكالها المختلفة، وتقديم تقنيات تصويرية عالية الجودة والذكاء مرفقة بعمليات مونتاج أثرت من إيقاع العمل في ترتيبها للقطات، وخلق التماهي والتضليل والتمازج بخفة وجاذبية، متوجاً ذلك بخفة الألوان وثقلها في محاكاة عميقة لنفسية البطل وصراعاته، ولا سيما تلك المناظر الطبيعية التي منحت لقطاتها الواسعة شعوراً حاداً ومفعماً بالفراغ والخواء اللذين يعكسان شعور البطل وأحاسيسه. ولا نغفل عن المشاهد الجريئة التي أضفت مصداقية على الشخصيات وحياتها.
وإن كانت شخصية يزن، التي ظهرت في خيال سمير في وقت متأخر من الحرب السورية، بحسب الزمن الدرامي للمسلسل، انعكاساً لخوالج البطل وهواجسه، فإنما وجدت لسببين: الأول، يدعو إلى توجه نفسي وفلسفي، يفيد بمواجهة الواقع والانقلاب عليه. فالحرب السورية وتأثيرها في الواقع الاجتماعي والمعيشي تتطلب ذئاباً ووحوشاً لمجاراتها، ثانياً، لتوظيف معطيات هذا الواقع درامياً. فبطلنا يردد كلمة "سيدي" أمام أيّ مواجهة يدخلها، ويرتعب حين يسمع كلمة "دولار"، ويرتجف عند فقدانه بطاقة هويته التي أخذ يبحث عنها حتى في حاويات ومكبات القمامة. سلوكيات موظفة بمهارة عمايري الذي غاص في عمق الشخصية وتفاصيلها وجوانبها المتشرذمة، في مواجهة واقع اجتماعي خاضع لتأثير السلطة وأدواتها الرقابية على مسار حياة المواطن اليومية.