حدثٌ تاريخي وقع خلال الشهر الماضي، بسببه تعطّلت شبكة الإنترنت في اليابان لمدة ثلاث دقائق. صالات السينما امتلأت مقاعدها، والكوكب بحالة غليان وترقّب للحظة صدور القسم الثالث من الجزء الرابع لمسلسل "هجوم العمالقة" (Attack on Titan). صدرت الحلقة في الثالث من مارس/آذار الماضي، وامتدت لساعة كاملة. أخيراً، ولأسباب إنتاجية، صدرت أجزاء مسلسلات أنمي كاملة على شكل فيلم طويل، لتضمن أرباحاً أكبر في قاعات السينما. لاحقاً، تبث الحلقات بشكل أسبوعي على منصات التدفق ذات الاشتراك السنوي.
في اليوم التالي من العرض، انطلق حفل جوائز الأنمي الرسمي في طوكيو برعاية شركة SONY. حصل "هجوم العمالقة" على ست جوائز؛ جائزة أفضل شخصية رئيسية (أيرين ييغر)، وجائزة أفضل أنمي درامي، وأفضل مؤدّ صوتي لشخصية أيرين، وجائزة أفضل افتتاحية أنمي، وجائزة أفضل موسيقى تصويرية، وجائزة أفضل أغنية أنمي (The Rumbling). وهكذا دخل المسلسل التاريخ من أوسع أبوابه، وحصل على أعلى تقييم في تاريخ الأنمي.
سنرى المسلسل من وجهة نظر البطل المضاد، أي العمالقة، ومعرفة أسس تغير وتطور مفهوم العمالقة عند البشر. أبطال المسلسل الحقيقيون هم العمالقة وليست الشخصيات التي واجهتهم، ولولا العمالقة ما كان للمسلسل أن يخرج من صفحات المانغا.
العمالقة، كأبطال للمسلسل، هم محاولة لإيقاظ المدفون وما يحمل من رعب. عند تفكيك أبعادهم التاريخية، نرى أن العمالقة يتموضعون في الحدود المبهمة ما بين الإنسانية والوحشية، ملامحهم ذات الواقعية المفرطة والتلاعب بأحجامهم وأبعاد أعضائهم، تزيد من تعقيد هذه الشخصيات، فهي من ستعطي باقي الشخصيات مظهراً إنسانياً. العمالقة كإعادة تصميم لجسم الإنسان، الإنسان الذي تابعناه وهو يُطحَن ويتحول إلى ضحية أو طعام أو يستسلم لديناميكية الكائن المتفرج بانتظار الموت، ما أثار قلق المشاهدين حين نظروا إلى ما يشبه الإنسان. من قرأ المانغا كمن شاهد المسلسل، يرى هشاشة البشر، وملامح الجثث الباهتة، وتقاسيم وجوه غارقة في ظلال مجوفة، يعيد بها الكاتب تجسيد الموت كمأساة مدفونة.
العمالقة اليونانية
يعيدنا العمل إلى التشابه بين العمالقة والأبطال اليونانيين ورمزية استعادة هذه الأساطير. للعمالقة أهمية ثقافية وأدبية في المحطات التاريخية كافة. عندما اكتشف أيرين أنه يستطيع التحول إلى عملاق، كان الأمر محاكاة لأساطير Norse Edda، خالقي العالم، فهم من جلبوا الأحجار وبنوا العالم. أيضاً، العملاقة التي تحمي شخصيات المسلسل من الفناء، إلهية الصنع، وبسبب النقص المعرفي، تظهر كنيسة تعبُد الأسوار الثلاثة. مريدوها يعتقدون أن الأسوار هدية من الله. عند تحول آني إلى عملاقة أنثى وهي تحاول الهرب بتسلق الأسوار، يُكتشف عمالقة داخل الأسوار، هم من بنوها، فتثبت الأسطورة، العملاق يبني ويدمر، هم أصل العالم وأكبر أعدائه.
في إحدى الحلقات الإضافية، OVA، توثق إحدى الناجيات لحظاتها الأخيرة في دفتر ملاحظات. عند لقائها عملاقاً ليس ذكياً من فئة الستة أمتار، انحنى لها العملاق الذي كان عبداً في السابق وناداها يومير (Ymir) -تيمناً باسم العملاقة الأولى- هي إحدى بطلات المسلسل التي تمثل رمز حركة المقاومة في بلاد الألديان، وتمثل يومير شخصية Aurgelmir في الميثولوجيا الاسكندنافية، وهي نسيج الأرض أو المخلوق الأول.
الطب وعصر النهضة
تظهر عمالقة اليوم، كما في العصور الكلاسيكية وعصر النهضة، محاولة ترسيم حدود الجسد ثقافياً. منذ القرن الخامس وحتى التاسع عشر، انشغل الإنسان بالاكتشافات الطبية التشريحية. استخدم الكاتب رسومات هذه المرحلة في تشكيل بعض عمالقته، وخاصة المرعبين منهم، وكما ظهرت تلك الرسومات تهديداً للبشرية حينها، بعرض الموت العاري للعامة. يظهر العملاق الضخم (Colossal titan) كالتهديد الأكبر في المسلسل، ويستحضر انفجاره في وعينا عند التحول قنبلة هيروشيما والحرارة التي أذابت البشر، علماً أن العمالقة أيضاً تتبخر أجسادهم عند الموت. للعمالقة تركيبة مختلفة وغير منتظمة من أطراف طويلة ورؤوس غريبة وأبعاد غير متناسقة، في بيئة معمارية أوروبية تعود إلى ذاك العصر، وتدور الأحداث فيه، بعيداً عن المنازل اليابانية الكلاسيكية، لاستعادة تلك الحقبة في عمارة عصرها.
من اللافت سهولة كسر وتفكيك جسم الإنسان في المسلسل، وكمية الشخصيات البشرية التي تُقتل بعنف، على عكس العمالقة التي تموت فقط عند ضرب نقطة محددة في مؤخرة العنق. إظهار جسد العمالقة بعضلاتها الخام فقط، يضع الجنود في مستوى مشرط العمليات الجراحية (شكل سيوف الجنود) الذي كان يعتبر أداة إلهية عند اكتشافه.
بدأت نظريات مقارنة الجسم بالآلة منذ انطلاق الثورة الصناعية، فأفلام كـ Ghost in the Shell وAstro Boy، قدمت البشر كمستخدم أو متحول، وانتشرت نظرية الأتمتة الواعية، وكان شكلها المبدئي في اليابان هو الكاراكوري. أعاد الكاتب هذه الإشكالية؛ فطمس الفرق بين البيولوجي والإلكتروني. استُبدلت الرقاقات النانوية التي تزرع في الجسد بسائل عضوي من النخاع الشوكي يُحقَن في الجسد ليتحول البشري إلى عملاق عادي، أو تحول البعض إلى عملاق ذكي بجرحٍ بسيط، من دون دعمٍ خارجي. اندماجٌ مضاعف مع الآلة، حيث يصبح العملاق داخلنا طبيعياً، ما يزيد شعور التناقض والضعف ما بين سرعة تجدد العمالقة وهشاشة الإنسان.
الفردانية والوجود الهش
عَمِلَ الكاتب على أكثر عمليات الوجود كثافة: الواقع والموت والأسطورة، بفنية عالية ساهمت بتحويل المسلسل إلى ظاهرة متكاملة. لكن، وبالرغم من أن الجحيم يُقدم أرضاً فسيحة لعرض الشخصيات، فإن المسلسل وقع في الميلودراما. الجميع تقريباً ذوو دوافع أحادية. تمتد القصص بين المعارك شبه فارغة ومملة، والحوارات سطحية، تُستخدم كممرات إجبارية إلى الذروة. الشخصيات لا تتطور مع السرد، تراكم الأحداث لديها كان يصب في تحقيق الشخصية هدفها فقط، وليس في تغيير الهدف أو مسار تطور العرض. بمعنى آخر، أبطال سطحيون، غالباً ما تتطور العاطفة لديهم وتنفجر بشكل غير منطقي.
قدم المسلسل وعداً بسقوط المجتمع الحديث، وتشكيل آخر جديد يعتمد على البقاء النقي، أو ما يسمى النجاة الفردية المُستحقة. شخصيات العمل نوعاً ما أوروبية، وتتحدث باللغة الإنكليزية بعد الدبلجة، تبناها المجتمع الغربي مباشرة، والعمالقة الذين مشوا على طريق الشهرة من قبل أن يدبلج المسلسل، تحولوا كما الزومبي إلى مقياس للدمار والنزعة للاستهلاك والانقسام الطبقي، وصولاً إلى العدمية. رسمت العمالقة الطريق للهروب من الالتزامات الاجتماعية والأخلاقية والمالية كافة لعصرنا الحالي.