تُنوِّع صالات سينمائية لبنانية عدّة برمجتها الأسبوعية. التجاريّ غالبٌ. الأجنبي طاغٍ. الأفلام ـ التي يسبقها صيتها ـ مُنتَظَرةٌ أكثر من غيرها. للسينما العربية حيّزٌ، رغم قلّة أفلامها المختارة لعرضٍ تجاريّ لبناني، وقلّة مُشاهديها. بعض تلك الأفلام حديث الإنتاج. بعضها الآخر قديمٌ، فكورونا سببٌ لتأخير العرض التجاري. أفلامٌ تعبر سريعاً، لأنّ البرمجة تُحدِّد مسبقاً مدّة عرضها بأسبوعٍ واحد، ولهذا سببٌ مرتبطٌ بجائزة "أوسكار" أفضل فيلمٍ دولي (النسخة الـ94 في 27 مارس/آذار 2022)، إذْ تشترط "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها"، مانحة الجوائز، أنْ يُعرَض الفيلم الأجنبي في صالات بلده قبل نهاية العام السابق على موعد كلّ نسخة. "كوستا برافا" (2021)، للّبنانية منية عقل، يُعرض أسبوعاً واحداً، لاختياره رسمياً في التصفيات الأولى، علماً أنّ اللائحة القصيرة للترشيحات تُعلَن في 27 يناير/كانون الثاني 2022. "عليّ صوتك" (2021)، للمغربيّ نبيل عيّوش، المعروض لبنانياً منذ 20 يناير/كانون الثاني 2022، ينتظر بدوره إعلان تلك اللائحة، لمعرفة "مصيره الأوسكاريّ".
العودة إلى الصالات التجارية اللبنانية غير شبيهةٍ بحيوية المُشاهدة الجماعية قبل تفشّي كورونا. بعض الصالات خالٍ كلّياً، والعرض يحصل أحياناً أمام مُشاهد واحد. تَحُولُ الأزمة الاقتصادية، أساساً، دون إحياء المُشاهدة الجماعية. ثمن بطاقة الدخول، لمُشاهدة غالبية الأفلام المعروضة تجارياً، يُساوي 100 ألف ليرة لبنانية، أي 4 دولاراتٍ أميركية، إنْ يكن سعر الصرف 25 ألف ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد (هذا سعر يتغيّر يومياً، وأحياناً مع فرقٍ كبير، يصل أحياناً إلى 33 ألف ليرة لبنانية). هذا يُثقل على ذوي الدخل المنخفض، أي أولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة اللبنانية.
لكنّ أفلاماً عدّة، لبنانية أولاً وعربية ثانياً، غير جاذبةٍ لكثيرين، في الأزمة أو من دونها، فهؤلاء يُفضّلون ـ في لحظة اختيارهم تمضية وقتٍ في صالةٍ سينمائية ـ أفلاماً أجنبية، "يتأكّدون" سلفاً من جودتها وقدرتها على التسلية، في مقابل "تأكّدهم شبه الكامل" من ندرة التسلية في أفلامٍ لبنانية، ومن قلّة المتعة في أفلامٍ عربية.
هذا غير متوافق دائماً مع الواقع. أفلامٌ لبنانية وعربية، معروضة حالياً في صالات تجارية في بيروت، مُثيرة للانتباه والمتعة والتسلية، مع تفاوتٍ واضح في كيفية اشتغالاتها وتقديمها لمتعةٍ وتسلية وإفادة. أفلامٌ أخرى تؤكّد ما يشعر به هؤلاء.
"كوستا برافا" يرتكز على مسألةٍ حيوية في الحياة اللبنانية (ملف النفايات)، لكنّ مُشاهديه في الصالة قليلون، ولعلّ سرعة إطلاقه وسحبه من الصالة سببان لانفضاض المُشاهدين عنه. "يربوا بعزّكن" (2019)، للّبناني ديفيد أوريان، يتأخّر وقتاً طويلاً قبل إطلاق عروضه التجارية، بسبب كورونا والإغلاق العام واشتداد الأزمة الاقتصادية. رغم هذا، يستمرّ عرضه منذ 8 أسابيع، وهذا حسنٌ، فالفيلم مُسلٍّ في معالجته مسائل مرتبطة بالاجتماعيّ والإنسانيّ، كما بالعلاقات العائلية والحبّ، وأزمات لبنانية مختلفة. تسليّته غير حاجبةٍ حِرفيته الفنية والتقنية والتمثيلية، بكلّ ما في الشكل من بساطةٍ وصدقٍ. المعالجة غير تعليمية وغير تلقينية، فالتسلية تريد إضحاكاً، والكوميديا المخفَّفة تُغلِّف شيئاً عميقاً، يقول أحوالاً واقعية وحسّية، عن أفرادٍ يُقيمون في بيئات لبنانية مختلفة.
الاجتماعيّ والإنسانيّ يحضران في "من أجل زيكو" (2022)، للمصري بيتر ميمي، من دون أي ترجمة بصرية لهما، في قالبٍ يُراد له أنْ يكون كوميدياً، لكنّه يفشل في أنْ يجعل الكوميديا ـ المُقدَّمة بسذاجة وخفّة وكليشيهات باهتة ـ غلافاً لعيشٍ واقعيّ، ولقصصٍ حقيقية. الصراخ، أي الصوت الأعلى من أنْ يكون مفهوماً، سمة غالبة على شخصية صفاء تحديداً، إذْ تعجز منّة شلبي عن إخراج الكلمات ونطقها بعصبيّة تتلاءم والسياق المبني على واقع العيش في بيئة فقيرة ومكتظّة، وفي منزلٍ يضمّها إلى زوجها فتحي (كريم محمود عبد العزيز) وابنهما زيكو (يوسف صلاح) وشقيقه (محمود حافظ)، ووالده المُصاب بألزهايمر. لا علاقة للتسجيل والتقنيات والنصّ والحوارات بالرداءة والفشل، وهذه كلّها مسؤولة عن إخفاقٍ مُذهل في صُنع فيلمٍ سينمائي، بل لأداءٍ تمثيلي مصري أيضاً، يميل إلى الصراخ، ظنّاً منه أن الصراخ تعبيرٌ وحيدٌ عن غضب أو توتر أو ارتباك أو قهر.
"يربوا بعزّكن" تعبيرٌ بالمحلية اللبنانية، يُقال للوالدين والأقارب مع ولادة طفل أو طفلة، رغم أنّ الاجتماع اللبناني، كالاجتماع العربي، ينفر من ولادة طفلة، ويبتهج بولادة طفلٍ، وهذا يُشير إليه النصّ (سيناريو أيزك فهد ودوريس سابا). الفيلم محاولة لبنانية جديدة في المزج بين معاينة مسائل أساسية في الحياة والعلاقات والانفعالات، ومعالجة فنية ودرامية ترتكز على تبسيطٍ غير مُسيء إلى أهمية الحكايات والشخصيات، وعلى تخفيف كوميديّ لغليان الاجتماع والناس، من دون إلغاء أهمية هذا الغليان وتأثيراته على سلوكٍ ومواقف.
الإضحاك مُتاحٌ في شكل كوميديا عادية ومبسّطة، والنصّ مهموم بحكايات لبنانية موغلة في تفكيك بناءٍ، يُفترض به أنْ يجمع لا أنْ يُفرِّق، لكنّ الحاصل يومياً يُعيق كل خطوة باتجاه الخروج من الانغلاق والتقوقع، ومن الصدام بين بيئاتٍ وشعوبٍ ومجتمعات وطوائف لبنانية. فيلم ديفيد أوريان يهدف إلى إثارة ضحكٍ ومتعة وتسلية، بمعاينته شيئاً من العلاقات المعطّلة والصدامية بين اللبنانيين: الزواج بين أبناء طوائف مختلفة وبناتها، التعامل الفوقيّ للمستشفيات مع الفقراء، الخداع والمواربة والتحايل، العلاقات بين فئات اجتماعية مختلفة (أثرياء ـ فقراء)، النظرة إلى الآخر، كيفية تلقّي خبر ولادة طفلة، إلخ.
هذا كلّه مُكتوب بسلاسة وتبسيط يتلاءمان مع فيلمٍ كوميديّ، يُضفي عليه أداءٌ تمثيلي ـ متنوّع ومتفاوت ـ حيويةً مطلوبة (تمثيل: عمّار شلق وغبريال يمين وباميلا الكك ورولا بقسماتي وشادي حنا وآخرين، مع نقولا دانيال وتقلا شمعون في إطلالة سريعة).
هذا غير حاضرٍ في فيلم بيتر ميمي، المليء بضجيجٍ يحول دون متابعةٍ هادئة ومريحة لأحداثٍ، يبدو أنّه من الأفضل عدم متابعتها، لانعدام أهميتها، رغم أنّ فيها شيئاً متواضعاً للغاية عن واقع وخبريات. أهمية النواة الحكائية (حكاية عائلة تكتشف فجأة أنْ الابن الوحيد لديها أحد 3 مراهقين يُعتبرون الأذكى في عموم مصر، وهناك مسابقة لاختيار الأذكى بينهم) يُغيّبها اشتغالٌ سينمائيّ باهت ومُتعِب للمُشاهد. الحساسية الاجتماعية تختفي، والكوميديا تُصبح هزلاً مصطنعاً، لا يُضحك ولا يُسلّي ولا يُفيد ولا يُمتِع.