يمثل عازف العود المصري، ممدوح الجبالي، بقية صالحة من المدرسة المصرية الكلاسيكية، في التعامل مع أهم آلات العزف العربي، قبل سيادة أنماط دخيلة، استخفت بالموروث المصري العريق في العزف، واعتبرته لوناً بدائياً، خالياً من "الخيال" أو القدرة على "التعبير".
حاز أصحاب هذه الأنماط الدخيلة وجوداً ونفوذاً فنياً في قلب القاهرة، امتلكوا من خلاله الجرأة على تنقيص المدراس المصرية الكبرى في العزف على العود، واعتبار أنّ محمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، ملحّنون، لا يمثل العود في حياتهم إلّا وسيلة لإظهار اللحن وتحفيظه للمطرب وفرقته.
كان ممدوح الجبالي من أبرز من تصدى لهذا التصور الذي اقتنع به قطاع واسع من العازفين الجدد والموسيقيين الشباب. ومن خلال رسالتيه للماجستير والدكتوراه، واجه الجبالي هذا التفكير الدخيل في جانبه النظري التأصيلي. ومن خلال عزفه ومؤلّفاته وألحانه، كانت المواجهة العملية التي تثبت أنّ الريادة المصرية في هذا الجانب أرسخ من أن تهتز لعزف هو أقرب إلى الغيتار منه إلى العود.
يرى ممدوح الجبالي أن التعليم الموسيقي يعيش أزمة حقيقية، بعدما غلب عليه تقديم المقامات الموسيقية في صورة سلّم، لا تستبين به حقيقة المقام ولا فلسفته ولا روحه، إلى درجة أنّ بعض مدارس تعليم العزف على العود قد خرّجت عازفين لا يميزون بين المقامات الأساسية، رغم مهارتهم التكنيكية. وهو ما استلزم السؤال عن التراكمات الفنية التي أوصلت إلى تلك الأزمة. يقول الجبالي، في حديث إلى "العربي الجديد"، إنّ "قوة الموسيقيين والمطربين القدماء، جاءت بسبب تعلمهم من القراء والمنشدين، واستفادتهم من الطريقة المشيخية في إنتاج الصوت، والعُرَب، والقفلات، وسلامة الألفاظ ومخارج الحروف" مشيراً إلى أنّ عمالقة الفن، وعلى رأسهم أم كلثوم، وعبد الوهاب، ورياض السنباطي، ومحمد القصبجي، تربوا جميعاً على يد الشيوخ والقراء ورواد الإنشاد الديني. ويرى الجبالي أنّ أجيالاً جديدة من الموسيقيين والمغنين والعازفين افتقدت لهذه التربية المشيخية القوية، وانعكس ذلك على إنتاجها فقراً وضعفاً ومحدودية.
ويصور الجبالي التراجع الموسيقي الذي شهدته العقود الأخيرة، بحالة الفقر المقامي الشديد في التلحين، إلى درجة أنّ قرابة 90 في المائة من الأعمال الغنائية يهيمن عليها مقام موسيقي واحد هو الكرد، ويكاد يهيمن النهاوند على بقيتها، فسيطرت الألحان الخالية من الجماليات الشرقية، أو أي شكل من أشكال التعقيد الموسيقي.
بدأ اهتمام الجبالي بالموسيقى في سنّ مبكرة، وشكلت الآلات المدرسية بداية رحلته مع المعرفة الموسيقية. تعلق بالأكورديون في المرحلة الإعدادية، وأتقن العزف على الغيتار والمندولين والإكسليفون. وربما كان إدراكه المبكر لطبيعة الموسيقى الشرقية، وتميزها بأرباع النغمات، سبباً رئيساً في تغيير اختياره الآلي. ففي المرحلة الثانوية، ومن خلال فرقة مركز شباب مدينة بورسعيد، تعرف على آلة العود، وتعلق بها تعلقاً كبيراً، فلم يتركها من يومها. ألقى بنفسه إلى الميدان العملي، يعزف في التجمعات والأفراح، ثم كانت الخطوة المهمة بالانتقال من بورسعيد إلى القاهرة، والالتحاق بمعهد الموسيقى العربية.
يتذكر الجبالي أنّه انضم على الفور إلى فرقة أم كلثوم للموسيقى العربية، برئاسة حسين جنيد... وكان هذا إرهاصاً بالتميز، لأنّ الفرقة لم تكن تقبل العازفين بسهولة. ومن خلال العمل مع كبار الموسيقيين، أدرك الجبالي أهمية التعلم من المشايخ والقراء والمنشدين. يقول الجبالي: "كلّ أعلام الفن الكبار من ملحنين ومطربين كانوا من الشيوخ، أو من أبنائهم، ومن الواضح أنّ هذه البيئة المشيخية، لها أثر كبير في طريقة التفكير الموسيقي بالنسبة للملحن، وطريقة إنتاج الصوت بالنسبة للمطرب". ويرى الجبالي أنّ التراجع الذي شهدته الموسيقى العربية، كان متزامناً مع التخلي عن المدرسة المشيخية، التي تكسب الموسيقى المصرية لونها الأصيل المتميز. وبعد عقود من هذا الابتعاد، آل حال الموسيقى والغناء إلى هذا الضعف والتردي.
بالتوازي مع المسيرة الفنية العملية، كان للجبالي رحلة طويلة مع الجانب العلمي النظري للموسيقى، وبعدما حصل على بكالوريوس المعهد العالي للموسيقى العربية بتقدير ممتاز عُيّن معيداً بالمعهد، وأستاذاً لآلة العود، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا عام 1995, وقد توجت رحلته هذه برسالتيه للماجستير ثم الدكتوراه. وفي الأولى، اختار الجبالي موضوع "الارتجال" في عزف القصبجي والسنباطي، وألقى الضوء على عينات من عزف الرجلين: التكنيك والريشة والتفكير. وفي أطروحة الدكتوراه تناول الجبالي "الصعوبات في موسيقى السنباطي"، بتحليل عينات من الألحان، وإبراز التعقيد اللحني والصعوبات التكنيكية في عزف اللحن. يقول الجبالي إنّ "السنباطي أدرك أنّ العود آلة تخاطب الوجدان لا الأبصار، وإنّها آلة سلطنة... فالسنباطي أعظم من أمسك بآلة العود، وما تركه من تقاسيم يعتبر ثروة فنية، ما زالت بحاجة إلى مزيد من البحث والدرس".
كان عام 1991 مفصلياً في حياة ممدوح الجبالي، فقد تعرف خلاله على الموسيقي والملحن المصري بليغ حمدي، فور عودته من باريس إلى القاهرة، بعدما أعجب حمدي ببراعة الجبالي في العزف، ليبدأ التعاون بينهما، لا سيما في موسيقى الأعمال الدرامية وشارات المسلسلات، وما زال الجمهور المصري يتذكر صوت عود الجبالي في مسلسل "بوابة الحلواني". ويعتبر الجبالي أنّ العلاقة مع حمدي، التي امتدت لسنتين قبل الرحيل، كان لها أثر كبير في نفسه، كما يرى أنّ أكبر دروس بليغ حمدي هو أن يعيش الفنان لفنه، وأن يجعل هذا الفن مقدماً على كلّ شيء.
وربما كان ممدوح الجبالي من أبرز تلك الكوكبة من الموسيقيين المصريين الذين أخذوا أخذا مباشرا عن الموسيقي وعازف الكمان الراحل عبده داغر. وبالطبع، كان السؤال مشروعاً: كيف لمن قطع هذا الشوط المهم في التعليم الأكاديمي، ونال درجتي الماجستير والدكتوراه، أن يتتلمذ أو يستفيد من رجل لم ينل طوال حياته أيّ شهادة؟ ويجيب الجبالي: "داغر خير مثال على الموهبة الخارقة التي لا تحتاج إلى التقوّي بالدراسة، بل ربما تمثل الدراسة خطرا عليها قد يفسدها ويضيعها. وأهم ما تعلمناه من عبده داغر بعد الاستفادة من تراث الشيوخ، هو رفض الاستنساخ. كان داغر يرفض أن يكون تلميذه نسخة مكررة منه، لا يحب أن يقلده أحد. وأذكر عندما استمع إلى عزفي، وكنت أركز على نغمة السيكاه، فنظر إليّ قائلاً: ارجع ورا شوية... كمان شوية... وظللت أحرك إصبعي إلى أن ارتضى صوت النغمة، فقال لي: اثبت على هذا... كان ما فعله تصويباً لما تعلمناه من قبل. فهمنا منه معنى التصفية التامة للحرف الموسيقي الواحد. وقد ظلّ داغر لعقود طويلة يجيب إجابة واحدة كلّ من يسأله عن مصادر موسيقاه ومؤلفاته بقوله: من القرآن. يقصد من تلاوة الشيوخ والمنشدين، وقد انعكس هذا في طريقة تعليمه، فهو أيضاً يعلم بطريقة الشيخ والمريد، ولا بد من أن تجلس أمامه ممسكاً بآلتك، لينقل لك خبرته التي حصلها، ويمكنه أن يفيدك منها، لكنّه لا يستطيع أن يشرحها نظرياً".
شارك الجبالي بالعزف على عوده ضمن تسجيلات عدد من أشهر مطربي العالم العربي، ومنهم وردة، وعلي الحجار، ومحمد الحلو، ومحمد منير، وأنغام، ومحمد عبده، وطلال مداح، وعبادي الجوهر، وذكرى، وعبد الله الرويشد، ونبيل شعيل، وآخرين. وأكثر هذه الأعمال تضمن عزفاً منفرداً على العود "صولو" ترك خلاله الجبالي بصمته الواضحة.
وكانت الموسيقى التصويرية من الميادين التي شارك فيها الجبالي بقوة، ومن أشهر الأعمال التي نسمع فيها صوت عوده: "دنيا عبد الجبار"، "درب الرهبة"، "حارة برجوان"، "المساطيل"، "حبيبتي من تكون"، "رجل له ماضي"، "أم كلثوم"، "المصير"، "لو كان ده حلم"، "همام في أمستردام"، "بليه ودماغه العالية"، "فيلم ثقافي"، "شاويش نصف الليل"، "صاحب صاحبه"، "الرجل الأبيض المتوسط"، "العشق والدم"، "الساحر"، "الجينتل"، "شورت وفانلة وكاب"، "اللي بالي بالك"، "التجربة الدنماركية"، "معالي الوزير"، "أحلى الأوقات"، "بحب السيما"، "اللبيس"، "أبو العربي"، "بوحة"، "أنت عمري"، "باب الشمس".
لكنّه أيضاً تصدى لتجربة التلحين، ومن خلال تأمل الأسماء التي لحن لها، أو طبيعة الأعمال التي لحنها يمكن للراصد أن يقرر أنّ الجبالي في تجربته التلحينية حرص على "النوع" لا "الكم"، وعلى تقديم موسيقى تواكب العصر، من دون أن تنسلخ من أصولها الموروثة.
ويرى الجبالي أنّ أهم محطاته التلحينية التي يعتز بها، تصديه الموسيقي لقصيدة بردة المديح للإمام البوصيري، التي لحنها كاملة، وقدمها بصورة تليق بنص له مكانته. والمعتاد في تلحين النصوص الطويلة دائماً، أن يختار الملحن أو المطرب عدداً من أبياتها. فمثلاً، حين أرادت أم كلثوم أن تغني قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي، اختارت منها 30 بيتاً من أصل 190، ودفعت بها إلى السنباطي ليلحنها. لكنّ الجبالي لحن بردة البوصيري كاملة بأبياتها الـ 160، ليشترك في غنائها عدد من الأصوات، في مقدمتهم المطربة المغربية فدوى المالكي، في عمل ضخم.
ويلمس من يستمع إلى مقدمة اللحن، تأثر الجبالي الواضح بأسلوب رياض السنباطي، في التعامل مع القصيدة الدينية، بنقل المستمع سريعاً إلى أجواء صوفية، تذكر بحلقات الذكر المصحوب بضرب الدفوف، وأصوات رجال الحضرة يلهجون بلفظ الجلالة. وتتوالى في المقدمة "صولوهات" الآلات الشرقية العتيدة: العود والناي والقانون. وقد صدر العمل في أسطوانة مدمجة، بمدة 90 دقيقة، شملت غناء كلّ أبيات القصيدة، سواء منها الملحن، أو الملقى إرسالاً مع خلفية موسيقية، وكذلك الفواصل النغمية، وترديدات الكورال.
ويرى الجبالي أنّ لحن "البردة" يمثل محاولة عملية، تثبت إمكان استعادة التلحين المقامي، وتعيد الاعتبار إلى الجملة الموسيقية الراقية، النابعة من الذات، والمعبرة عن الهوية، بعدما سيطرت على الحالة الفنية أساليب التبسيط الغنائي والتلحيني، والخضوع للروح الغربية، وهو ما جعل التكرار والضعف يهيمنان على الإنتاج الفني.
ولعلّ تميز ألحان الجبالي كانت سبباً لخلاف بين النقاد ومتابعي المشهد الموسيقي المصري، إذ رأى بعضهم أنّ الجبالي ملحن متمكن، يسير على خطى الأعلام، وأنّ تميزه الشديد وشهرته في العزف على آلة العود ظلمت مكانته في عالم التلحين، وكذلك التأليف الموسيقي، الذي كان للجبالي منه نصيب معتبر، بأعمال متميزة منها: "لونغا نهاوند" و"سماعي راحة أرواح" و"خواطر مصرية" و"سماعي شد عربان" و"قلب حائر". لكنّ آخرين رأوا أنّ الجبالي، رغم خصوصية تجربته التلحينية، يظل عازفاً من الطراز الأول، وأنّ موقعه في عالم العزف على العود يتقدم حتماً على موقعه في عالم التلحين والتأليف الموسيقي.
عزف ممدوح الجبالي بعوده على كثير من مسارح العالم، وتعددت زياراته الفنية الخارجية، فزار سورية، ولبنان، والأردن، والكويت والمغرب وتونس والإمارات، وأميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيرلندا، والنمسا، وإيطاليا، وهولندا، وإسبانيا والتشيك وألمانيا، وأوزبكستان، وباكستان، واليابان.
يرى الجبالي أنّ الجمهور الغربي المهتم بمنطقتنا يبحث عن الموسيقى الشرقية الأصيلة، التي تمثل الثقافة العربية في حقيقتها وهويتها، فليس كلّ فنان عربي يصلح لأن يكون ممثلاً للثقافة العربية، لا سيما إن غلبت الروح الغربية على أعماله. فالغربي المهتم بالموسيقى الشرقية، لا يريد من يقدم له أعمالاً لا تعدو أن تكون مجرد سلّم موسيقي بسيط، ولا يريد من يقدم له الفالس أو التانغو، وإنّما يبحث عن "المقام" والروح الشرقية، وهذا لا يتأتى إلّا عبر "وسطاء أمناء" ممّن تشرّبوا تلك الموسيقى الشرقية المقامية وانحازوا لها.