من سافر مرة واحدة إلى برلين، أو اعتاد الذهاب إليها في الأعوام الـ25 الأخيرة، يصعب عليه استيعاب أن أجزاء كثيرة منها ـ أحياء وعمارات تاريخية ومتاحف وقصورًا أثرية ـ دُمِّرت قبل نصف قرن أو أكثر بقليل؛ وأن المدينة نفسها كانت مشطورة، يحتاج أهلها إلى جوازات سفر للتنقل بين شطريها الغربي والشرقي، ومنهم من دفع حياته ثمنًا للعبور والبحث عن حياة جديدة، أو من أجل لَمّ شمل العائلات في الطرف الآخر، خاصة الغربي منها.
قبل ثلاثة عقود، لم تكن المدينة موحّدة، لكن كان فيها نسق عام شديد التناغم في الحياة والعمارة والتخطيط والبناء. اليوم، باتت برلين خليطًا مدهشًا، وأحيانًا فجًّا، بين تناقضات عديدة، مع أنه (الخليط) لا يفتقر إلى التناسق. فبرلين استطاعت جمع التاريخي والأثري والعصري، والمتعلق بعمارة ما بعد الحداثة، في كيانها. في ساحاتها مثلاً، تظهر عمارات ذات طابع حداثي، شاهقة الارتفاع وزجاجية الواجهات، كأن المرء يمشي في قلب مدينة أميركية، إلى جانب أبنية تاريخية أو سكنية قديمة تحمل بصمات القرن الفائت، خاصة منتصفه.
وسط هذا الخليط اللافت للانتباه، يصعب على كثيرين تبيان الخطوط الفاصلة بين برلين الغربية وبرلين الشرقية، أو التنبّه إلى أمكنة تمدّد الجدار قبل أن يسقطه الألمان بأيديهم في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989.
حال "مهرجان برلين السينمائي الدولي (البرليناله)" كحال المدينة. فهو تأسّس في مدينة لم يخطر ببال سكانها أنها ستنقسم ذات يوم إلى قسمين. الأثر السياسي الذي أفرز الانقسام أدّى إلى إقامة المهرجان في الجزء الغربي منها، قبل أن يعود كما كان، مع توحيد المدينة. لذا، فإن السياسة كانت ولا تزال بنية ودعامة راسختين له، وهذا لم يتنكّر له القائمون عليه أبدًا، بل يعتبرونه قوّة وتميّزًا له.
يمنح المهرجان سنويًا "جائزة الدب الذهبي" لأفضل إسهام فني جديد، أو ما يُعرف بـ"جائزة ألفريد باور"، ينالها فيلم متميّز فنيًا ضمن مسابقته الرسمية. الدكتور ألفريد باور مؤرّخ سينمائي، وصاحب فكرة تأسيس المهرجان عام 1951. كان مديره الأول، وظلّ في منصبه حتى عام 1976. "تير غارتن" (حديقة الحيوانات) مساحة شاسعة وخضراء تقع في قلب برلين، كانت قبل قرون غابة تُحيط بها، يذهب إليها الملوك والأمراء للصيد، إذْ كانت تعجّ بالحيوانات، ومنها الدببة. لذا، اختارت المدينة الدبّ شعارًا لها، كما اتخذه المهرجان شعارًا له أيضًا، ولجوائزه السنوية.
عند تأسيسه، لم يكن المهرجان يمنح كل تلك الجوائز. كان هناك "دبّ ذهبي" واحد، و7 "دببة فضيّة" في مسابقته الرسمية. كان يكتفي بجائزة أفضل فيلم روائي (دبّ ذهبي). بعد ذلك، مُنحت جائزة أفضل فيلم قصير (دبّ ذهبي) عام 1956. ثم الجوائز الفضية، وغيرها مما استُحدِث لاحقًا. "جائزة الدبّ الذهبي" كانت تمنح بتصويت نقاد ألمان، ثم الجمهور. في أول دورة، فاز بها 5 مُخرجين في الوقت نفسه.
مع مجيء المدير الفني الثاني للمهرجان عام 1977، الصحافي والناقد وولف دونر، تغيّر موعد إقامته بنقله من الصيف إلى الشتاء. منذ ذلك الحين، يُقام المهرجان سنويًا في فبراير/ شباط. هذا أبرز ما صنعه دونر خلال توليه منصبه هذا، الذي تركه عام 1980. توجَّه دائمًا انتقادات للمهرجان، وأحيانًا نصائح، بضرورة الابتعاد عن بداية العام، لتجنّب المناخ البارد، الذي تهبط درجاته غالبًا إلى ما تحت الصفر، وأحيانًا تصل إلى 15 تحت الصفر. وأيضًا للتغلّب على مسألة ندرة الأفلام حديثة الإنتاج، التي يصعب الحصول عليها مع بداية العام، إذْ يختارها مهرجانا "كانّ" و"فينيسيا"، وغيرهما. رغم أهمية الأمر، لم يعبأ مديرو المهرجان، الذين تناوبوا على إدارته، بنصائح كهذه. مع مرور الوقت، صار المهرجان نموذجًا يُضرب به المثل في البرودة، في الجوانب كافة، فهو يوصف أحيانًا بـ"الصقيعيّ".
بعد وولف دونر، تولّى المنصب المخرج والمصوِّر السويسري موريتز دي هادلين، القادم إليه من إدارته مهرجاني لوكارنو وفينيسيا. حافظ دي هادلين على منصبه 21 عامًا (تركه عام 2001)، ثم جاء ديتر كوسليك، الذي يختتم إدارته للمهرجان في مايو/ أيار 2019، بعد 18 عامًا قدَّم خلالها إنجازات عديدة.
هناك أمور كثيرة تُقال عن مهرجان ضخم كهذا، بدءًا من التاريخين السياسي والسينمائي، مرورًا بالعمارة الحديثة، التي تظهر في تصميم قصره الفريد، الذي صمَّمه المعماري الإيطالي رينزو بيانو، وافتتح عام 1999، وكان مُخصّصًا للموسيقى أساسًا. فيه أقيمت ولا تزال تقام حفلات موسيقية لفرق ألمانية وعالمية. مُؤخرًا، بات المبنى يحمل اسم "قصر البرليناله"، ويُعتبر حاليًا من أهم شاشات العرض في أوروبا، ومن أكبر المسارح في برلين (أكثر من 1600 مقعدًا). وهو يحتضن حفلتي الافتتاح والختام، وعروض الصحافة، والمؤتمرات الصحافية طوال فترة المهرجان. اللافت للانتباه أن القصر والمُجمّعات السينمائية الضخمة ("آي ماكس" و"سوني سنتر") و"سوق المهرجان"، المنتشرة في الشوارع المتفرّعة من الساحة العريقة "بوتسدامر بلاتس"، تحضن القليل من فعاليات المهرجان، وجماهيره العريضة بصفوفها الممتدة كليومترات طويلة. الساحة وشوارعها الفرعية تقتصر غالبًا على الصحافيين والنقاد والعاملين في صناعة السينما.
على نقيض مهرجانات
(سويسرا) وكارلوفي فاري (تشيكيا)، يمتدّ مهرجان برلين في المدينة كلّها. الأرقام تقول شيئًا كثيرًا: تُعتبر "البرليناله" أكثر المهرجانات جذبًا للجمهور، الذي يتردّد على صالاتها ويُشارك في نشاطاتها وبرامجها. كما أنها الأكثر بيعًا لبطاقات الدخول (نحو 300 ألف تذكرة)، والأكثر عرضًا للأفلام (ما لا يقلّ عن 400 فيلم)، إذْ بلغ عددها 441 فيلمًا في دورة عام 2014، كان لها 945 عرضًا. هناك أيضًا 4200 صحفي يأتون إلى المدينة ومهرجانها من نحو 110 دول. "سوق المهرجان" الأكبر في أوروبا (20 ألف مشترك). ومُقارنة بغيرها، فإن "البرليناله" تمتلك "سوق الرواية" أيضًا، إذْ يُقام نشاطٌ تُطرح فيه أفضل النصوص الروائية الأوروبية بلغات مختلفة (بين 10 و14 رواية سنويًا)، فتُشترى حقوق اقتباسها السينمائيّ.
بعيدًا عن الأرقام، طبيعيٌ أن تكون لمهرجان بهذا الحجم وذاك التاريخ إسهامات فنية كثيرة وأسماء بارزة قدّمها منذ انطلاقته، وأفادت تاريخ السينما. هذا غير مقتصر على الجوائز أو المسابقة الرسمية، فهو ممتد إلى الأقسام والفعاليات والمبادرات التي استحدثها المهرجان في مساره، واستفاد منها ولا يزال عاملون كثيرون في صناعة السينما، مُخضرمون وراسخون وشباب واعدون وأصحاب مشاريع يبحثون عن تمويل؛ إلى جانب نشر الوعي الفني والسينمائي والسياسي بين الجمهور بطرق غير مباشرة، والترويج لاسم المدينة والدولة الألمانية عالميًا.
مهرجان له عراقة كتلك ساهم في تقديم أفلام كثيرة من قارات العالم، كانت فعليًا تُحفًا سينمائية. كما قدّم مُخرجين ومخرجات، ونجومًا ونجمات، واصلوا مسيرتهم أو تعثّروا. مع ذلك، مَرَّ المهرجان في فترات خمول، تعرّض فيها إلى هجوم وانتقاد وكشف للفضائح. لكنه كان ينتفض بين حين وآخر لتقديم الجديد والمُغاير، مقارنة بغريميه الأساسيين، "كانّ" وفينيسيا. كما مرّ في فترات غير محبّبة، كمرحلة بناء الجدار ثم الانفصال، إلى أن تحقّقت الوحدة. أو كمرحلة تحوّل دوراتٍ عديدة إلى "دورات فضائحية"، لهفواتٍ ما أو لأسباب مختلفة.
مثلاً، يصعب نسيان أزمة عام 1970 بسبب فيلم "أو. كي" للألماني ميشائيل فيرهوفن، وما تخلّله من مشاهد اغتصاب وقتل فيتنامية على أيدي جنود أميركيين، في حرب فيتنام. الفيلم استند إلى وقائع حقيقية، فأثار جدلاً، دفع لجنة التحكيم برئاسة الأميركي جورج ستيفنس إلى استبعاده، "لأنه لا يخلق تفاهمًا بين الشعوب". أُثيرت ضجة كبيرة أفضت إلى استقالة لجنة التحكيم في مؤتمر صحافي عالمي. هذه الدورة كانت الوحيدة التي ألغيت فيها المُسابقة الرسمية. بعد أعوام قليلة (1976)، واجه المهرجان مُشكلة فنية، بسبب ما أثاره "إمبراطورية الحواس" للياباني ناغيزا أوشيما، إذْ اعتبره القضاء الألماني "بورنوغرافيًا/ إباحيًا"، فتداول المسألة عامين متتاليين، وانتهى الأمر بإنصاف إدارة البرليناله.
مشكلة سياسية أخرى حدثت عام 1979، بطلتها فيتنام أيضًا، إذْ تسبّب "صائد الغزلان" لمايكل تشيمينو، في انسحاب دول المعسكر الشرقي من الدورة الـ29 (20 فبراير/ شباط ـ 4 مارس/ آذار)، إذْ اعتبرته "إهانة للشعب الفيتنامي"، فاضطرت إدارتها إكمال الدورة بمن بقي. عام 1986، حدثت مشكلة فنية أيضًا، إذ تبرّأت رئيسة لجنة التحكيم جينا لولو برجيدا من "شتامهايم"، أو "محاكمة عصابة بادر ماينهوف" لراينهارد هوفّ، الفائز بـ"الدبّ الذهبي".
ضجة شبيهة بما أحدثه "إمبراطورية الحوّاس" أثيرت عام 2001 بسبب "ألفة" لباتريس شيرو، تمثّلت باعتراض النقّاد على لجنة التحكيم، معتبرين أنه لا يستحق الجائزة، وأنه مُغرق في الإباحية.
تصرّفات مخرجين وملابس مُثيرة لممثلات حاضرة بدورها في تاريخ المهرجان، من دون أن تستمر وقتًا طويلاً، فهي تتبخّر مع انتهاء كلّ دورة. الاعتراضات التي واجهت المُدير الحالي ديتر كوسليك بمعاداة المُخرجين الألمان، هي نفسها التي واجهها سلفه موريتز دي هادلين. عام 1981، هدّد مخرجون ألمان الإدارة بعدم المشاركة في الدورة الـ31 (13 ـ 24 فبراير/ شباط) ومقاطعة فعالياتها، بسبب رفضها المُتكرّر لأفلام ألمانية، باعتبارها تجارية أو غير فنية. هذا دفع الإدارة إلى التفاوض معهم، وإلى إشراك خمسة أفلام ألمانية في دورة العام التالي، التي فاز فيها راينر فيرنر فاسبيندر بـ"الدبّ الذهبي" عن "سرّ فيرونيكا فوس"، بعد ثالث مشاركة له في المسابقة الرسمية للمهرجان، علمًا أنه توفّي بعد أشهر قليلة على ذلك (10 يونيو/ حزيران 1982).