بعد احتجاب اضطراري لأكثر من عامين، عاد "المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش" في دورته الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022)، ليؤثّث، في 9 أيام، فضاءات المدينة الحمراء بالفرجة السينمائية، وأجوائها المحتفية بالحياة. دورةٌ استثنائية، شعارها استدراك الزمن الكوفيدي الضائع، ما انعكس على البرمجة ثراءً استثنائياً، شكلاً وانسجاماً في طرحها، المركِّز على فكرة التعايش بين الثقافات وتقبّل الاختلاف، وزخماً تجسّد تحديداً في حضور عددٍ يستعصي على الحصر من سينمائيي الصف الأول.
76 فيلماً من 33 دولة، توزّعت على المسابقة الرسمية، والعروض الاحتفالية (غالا)، والعروض الخاصّة، وقسم "القارة الـ11"، وعروض المُكرّمين، وبانوراما السينما المغربية، إلى أنشطةٍ أخرى متنوّعة، منها 10 حوارات مع سينمائيين مرموقين، بينهم "النادر" ليوس كَراكس وجيم جارموش وأصغر فرهادي وجيريمي آيرونز، والفائزَين بـ"السعفة الذهبية" في آخر دورتين من مهرجان "كانّ"، روبن أوستلوند وجوليا دوكورنو.
يُترجم تركيز المسابقة الرسمية على الأفلام الأولى أو الثانية لمخرجيها، في عروض أولى في أفريقيا والشرق الأوسط، سعي المهرجان لتسليط الضوء على مواهب جديدة، والمساهمة في إطلاقها. توجّهٌ أعطى ثماراً، تمثّلت بحضور المخرج الأسترالي جاستن كورزل ("ماكبث"، "نيترام") عضواً للجنة التحكيم، كنوعٍ من الوفاء للمهرجان الذي أدّى دوراً في إشهار فيلمه الأول "جرائم سنوتاون"، المُتوّج بجائزة لجنة التحكيم، برئاسة إمير كوستوريتزا، عام 2011، كما قال ردّاً على سؤال "العربي الجديد" له، في المؤتمر الصحافي المعقود لتقديم أعضاء لجنة التحكيم، برئاسة المخرج الإيطالي باولو سورنتينو، وعضوية الممثّلة الألمانية ديان كروغر، والممثّلة والمخرجة اللبنانية نادين لبكي، والممثّل الفرنسي طاهر رحيم، والمخرجة المغربية ليلى المراكشي، والممثلة الأميركية فانيسا كيربي، ولم يحضر الممثل الأميركي آيزاك أوسكار والمخرجة الدنماركية سوزان بيير لـ"ظروفٍ قاهرة".
من أبرز مضامين المؤتمر، الاختلاف الجوهري في وجهات النظر بين سورنتينو ولبكي حول وظيفة السينما، ومدى جدوى الالتزام في حلّ الإشكالات السياسية والاجتماعية، احتاج معه الإيطالي إلى الحديث بلغته الأمّ لتفصيل رؤيته.
توّجت النجمة الذهبية (الجائزة الكبرى)، لأوّل مرةٍ، فيلماً إيرانياً، لم يكن ضمن ترشيحات النقاد والمهنيين، فاقتراحه الجمالي ليس أفضل المُقدَّم في المسابقة: "حكاية من شمرون" لعماد الإبراهيم دهكردي. عملٌ مشدود الإيقاع، رغم حبكته المتوقّعة إلى حدٍّ ما، يُقدّم مشهداً قاتماً عن مجتمع إيراني يتآكله الإدمان والتفكّك العائلي والهجرة إلى الخارج كمنفذٍ وحيد، عبر قصّة إيمان، الذي يعيش مع أخيه الأصغر ووالده المعتلّ، ويصارع لكسب قوت عيشه، فيستسلم لفخّ بيع المخدّرات. في الفيلم نزعة تشاؤمية، تترجم رؤية المخرج لوضع عدم الاستقرار في إيران، قوامها لازمة عمليات بيعٍ وتفويتٍ ورحيلٍ وشيكٍ، وهدم كلّ جميل، كما في الحبكة الثانوية، التي يقاوم فيها إيمان إغراء المال المُقدّم إليه من خاله، للسماح بقطع أشجار نمت في القرية العائلية؛ أو حين يرهن سجّادة فارسية (بكلّ حمولتها الرمزية)، أهدتها إليه أمّه المتوفاة، للحصول على دفعة أولى من المخدّرات.
جائزة لجنة التحكيم مناصفةً بين فيلمين صادقين وجميلين: "الرّوح الحيّة" (ألما فيفا) للفرنسية البرتغالية كريستيل آلفيس ميرا، و"أزرق القفطان" للمغربية مريم التّوزاني. يحكي الأول، بعينَي الطفلة سالومي، يوميات قرية برتغالية، ترزح تحت معتقدات بالية، بإيقاع يمزج التأمّل بالتوتّر بين أفراد العائلة الكبيرة، قبل أنْ تُلقي وفاةُ الجدّة القريةَ برمّتها في دوّامة فوضى، ساهمت قوى الطبيعة (حرائق وزخّات مطرية) في تأجيجها. يكشف الفيلم، بمجازية، عن ميزوجينية مترسّخة لا تزال تتّهم النساء بالشعوذة القروسطية، وتطيّرٍ أرعن، تبدو في ضوئه شخصية الخال المكفوف أكثر سكّان القرية تبصّراً وحكمة.
اتّسم "أزرق القفطان" (ثاني روائيّ طويل للتّوزاني) باقتصادٍ في الحبكة وحميمية، ليروي قصّة حليم، خيّاط أزياء مغربية تقليدية، ذي شخصية مرهفة، وزوجته مينة، المتحكّمة بحزمٍ في شؤون المحلّ، الذي يشتغل فيه يوسف كمتعلّمٍ شابّ وموهوب، فينشأ تقاربٌ بينه وبين حليم، تفطن له مينة بالتّوازي مع استفحال مرضها، ويتكوّن مثلّث حبّ غير تقليدي، تتناوله المخرجة بحساسية وتوحّد مع دواخل شخصياتها، وتُفصح فيه بإشاراتٍ أكثر من عبارات، وتقطّر الأحاسيس من النظرات ولحظات الصّمت، معتمدةً على أداء رفيع للممثّلين الكبيرين، صالح بكري ولبنى آزابال.
هناك تبئير مرآوي، يقرن هيكل الفيلم، السردي والجمالي، بمسار حياكة قفطان تقليدي أزرق، مع التقاط الكاميرا، في لقطات مكبّرة، مُلامسة ومداعبة يد حليم لتفاصيل العُقَد والزّخارف الجميلة، مُعبّرةً عن فكرة أساسية مفادها أهمية تقبّل الاختلاف في اختيارات الحبّ، لأنّها الاختيارات نفسها القابعة وراء تفرّد النظرة في فنّ التصميم والطّرز، وتجعل من لازمة التأنّي والاشتغال على التفاصيل -التي ما لا يفتأ الزوجان يذكّران بها الزّبونات الملحّات على تسلّم طلباتهنّ- مرثيةً لفنّ تقليدي آخذ في الاختفاء، بحكم هيمنة الطّرز الآلي، والزّخارف المصنّعة والمجرّدة من روح الشغف وآدمية اليدويّ، وحمولة هذا الطّرح المرّ المحيلة على نزوع المجتمع إلى الأحادية، والافتقار إلى التعاطف مع كلٍّ مختلف.
إلى ذلك، نالت السويسرية كارمن جاكي جائزة أفضل إخراج، عن فيلمها الطويل الأول "برق"، وحاز آرسويندي بينيك سوارا جائزة أفضل ممثل عن تأديته شخصية الجنرال في "سيرة ذاتية"، للإندونيسي مقبول مبارك؛ وفازت الكورية الجنوبية تشوي سونغ يون بجائزة أفضل ممثلة عن دور الأم في "رايسبوي ينام" للكندي الكوري الأصل أنتوني شيم: فيلمٌ قويّ ومؤثّر، ربما استحق مكانة أرفع في سجلّ الجوائز، بفضل توفّق مخرجه في التقاط مشاعر العزلة والتمزّق، التي تجتاح أمّاً عزباء كورية، وطفلها دونغ هيون في كندا، بعد فرارهما من ماضٍ مأسوي في بلدهما الأصلي، فيُصبحان ضحية العنصرية والعنف المعنوي في بلد الاستقبال، خاصة أنّ العلاقة بينهما يشوبها سوء فهمٍ متأصّل، يجد جذوره في تكتّم الأم على ماضيها.
يتميّز أسلوب شيم في الإخراج باشتغال رائع على الاختزال، والمشهد الطويل، والكاميرا المتحرّكة بانسيابيةٍ لتعبّر عن "وجهة نظر روح الأب المتوفّى"، بحسب تعبيره، ما يمنح الفيلم طابعاً شخصانياً، يُضاعف من تأثير قصّته النّاهلة من سيرته الذاتية.
يظلّ "أشكال"، للتونسي يوسف الشابي، أبرز الغائبين عن لائحة المتوّجين، نظراً إلى نصّه الخبيء والقاضّ، عن ترسّبات وخيبات ما بعد الربيع العربي، والذريعةُ تحقيقٌ بوليسي في ظاهرة جثث متفحّمة يُعثر عليها في بنايات في "حدائق قرطاج". حيٌّ غير مُكتمل في تونس العاصمة، أنشئ لفائدة أعيان النظام القديم، عادت أعمال البناء إليه حديثاً بعد توقّفها مع اندلاع الثورة. استثمار الشابي المُلهَم للفضاء ينهل من تأثير الفنّ المعاصر بلقطات ثابتة وعامّة، تجعل منه مسرحاً يختزل المدينة بأسرها. يسعى المُحقّقان فاطمة وبطل إلى سبر الأفقية، بحثاً عن دلائل ومشتبه فيهم في جرائم قتل مُفترضة، ما تفتأ عمودية الفضاء وعدم اكتماله وقتامته، تعيدهما إلى النقطة الصفر، بإيحاءاتها إلى تجريدٍ تعكسه طبيعة القاتل، التي تزداد هلامية مع تقدّم الأحداث، في إشارة بليغة إلى تعبيره عن فكرة سياسية ودينية مُستعصية على القبض، لأنّها تسري في أوصال المجتمع وأنساق تفكيره.
لعلّ الخيط الذي ينظّم طرح جُلّ أفلام المسابقة، اغتراب الشخصيات في منظومة جماعية تضطهد فردانيّتها، ولا تجد سوى العزلة والكتمان ملجأً، إلى أنْ تنفجر مكبوتاتها في تصرّفات لا إرادية، ذات بعد غرائبي (انجذاب فاطمة إلى النار في "أشكال"، وعنف دونغ هيون في "رايسبوي ينام"، وسرنمة إيزابيل الثائرة في "الروح الحيّة"، وكابوس الطائر الذي يقضّ مضجع إيمان في "حكاية من شمرون"، وقرار حليم المتمرّد في نهاية "أزرق القفطان").
بعد أربع دورات، رافق المهرجان فيها 88 مشروعاً من أفريقيا والعالم العربي (بينها 48 فيلماً مغربياً)، حقّق بعضها مساراً حافلاً في مهرجانات دولية مرموقة، كـ"ريش" لعمر الزهيري، و"زنقة كونتاكت" لإسماعيل العراقي؛ اشتملت دورة 2022 لـ"ورشات الأطلس" على أشغالٍ، استفاد منها حاملو 23 مشروعاً، في مراحل التطوير والتصوير وما بعد الإنتاج، بينها حوار جَمَع المشاركين بأصغر فرهادي، ولقاءان عن مهنة كاتب السيناريو ورهانات توزيع الأفلام المستقلّة، تلتها حصص عمل مع المخرجة التونسية أريج السهيري عن إدارة الممثّلين غير المحترفين، ومع المخرجة اللبنانية رنا عيد عن استخدام الصوت كعنصر سردي، إضافة إلى لقاءَين آخرين، أحدهما عن الاشتغال على الأرشيف في الأفلام الوثائقية والروائية، والآخر عن التعريف بمسار منتجين من العالم العربي وأفريقيا.
أما الجوائز، فبلغت قيمتها المالية 106 آلاف يورو موزّعة على 7 مشاريع، منها منحتان لمرحلة ما بعد الإنتاج: "إن شاء الله ولد" للأردني أمجد الرشيد، و"ديسكو أفريقيا" للوك رزاناجاونا (مدغشقر)، وجائزة تطوير لفيلم طويلٍ، للمغربي سعيد حميش، بعنوان "البحر البعيد"، و"كش حمام" للّبنانية دانيا بدير. جائزة "آرتي كينو" للتطوير نالها "تمنتاشر" للمصري سامح علاء.