يتوتّر عاملون وعاملات في مهنٍ مختلفة، في دول عربية عدّة، إزاء تصوير شخصياتٍ سينمائية وتلفزيونية تعمل في المهن نفسها، في أعمال فنية مختلفة. ينزعجون. يُندِّدون بـ"صورةٍ"، يقولون إنّها تُشوِّه مهنتهم، وتُسيء إليهم. لهم نقابات "تدافع" عن توتّرهم، رغم انفضاضها غالباً عن حقوقٍ لهم مهدورة، في الاجتماع والاقتصاد والعيش. يجدون في أعمالٍ كهذه هدفاً لتنفيس احتقانٍ وغضبٍ يعتملان فيهم تجاه مآزق وتحدّيات، يعجزون عن التغلب عليها. يُدركون أنّ زملاء وزميلات يرتكبون هفواتٍ، وبعض الهفوات يبلغ مرتبة الخطأ، والخطأ قاتلٌ أحياناً؛ لكنّهم يرفضون صورة فنية، غير مُختزلةٍ إياهم جميعاً، بقدر ما تكون نموذجاً واحداً، مأخوذاً من بين مئاتٍ أو آلافٍ. يساهمون في تغطية الهفوات، وفي حجب الأخطاء، وفي إخفاء معالم وآثار تفضح وتُدين وتُحاكِم من أخطأ، ومن ساهم في الخطأ، مباشرة أو مواربة؛ لكنّهم يثورون ضد صورة فنية تندرج في سياق مُتخيّل، وإنْ يُستَلُّ السياق من واقعٍ وعيشٍ يوميّين.
يحدث هذا في دول عربية عدّة. تشتهر القاهرة بمقولةٍ، تتكرّر عند كلّ فعلٍ سينمائيّ أو تلفزيونيّ كهذا: الإساءة إلى سُمعة مصر. تُرفَض أفلامٌ تنتمي إلى "الواقعية الجديدة"، في ثمانينيات القرن الـ20، لانهماك صانعيها في قراءة الواقع وإخفاقاته وانكساراته ومواجع ناسه واهترائه وعفنه. هذا ترفضه مجموعاتٍ، ترى في القراءة السينمائية "إساءة" إلى "سُمعة" بلدٍ. لكنّ المجموعات نفسها تتغاضى عمّا يعتمل في الاجتماع والواقع، وهذا أخطر وأعنف وأكثر إساءة إلى الناس، وحقوقهم وعيشهم. المقولة تحضر بين فينةٍ وأخرى. حالياً، إمساك النظام الحاكم بالإنتاج "يُخفِّف" من تحقيق أعمالٍ "تُسيء" إلى سُمعة مصر، كأنّ لا أحد في مصر يُسيء إليها وإلى ناسها وسُمعتها غير الإنتاج، السينمائي والتلفزيوني.
اختيار شخصية تعمل في المحاماة أو التمريض أو السكك الحديدية، في أعمال درامية معروضة في المغرب خلال رمضان 2021، يُثير غضب عاملين وعاملات في هذه المهن. قيل إنّ هؤلاء يرونها مستفزِّة، ويعتبرونها تهجّماً عليهم، لأنّها "تُعمِّم صورة خاطئة عنهم"، كما يقولون. هذا يُذكِّر بـ"نقابة الممرضات والممرضين" في لبنان، المتقدّمة بشكوى لدى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت و"المديرية العامة للأمن العام" ضد المخرج اللّبناني سليم الترك و"تي برودكشين" للإنتاج، بـ"تهمة القدح والذمّ"، لأنّ "الفالنتاين الأخير في بيروت" (2012) "يتناول صورة الممرضة بشكلٍ مُسيء". أتذكرون موقف نقابة المحامين في القاهرة إزاء عادل إمام، بسبب "الأفوكاتو" (1983) لرأفت الميهي؟
الإساءة متأتية من عاملين وعاملات في المهن، لا من شخصيات فنية، يستحيل أنْ تختزل الجميع فيها. الشخصية واحدة. موقفها وسلوكها وآراؤها وتصرّفاتها وأهواؤها ورغباتها حكرٌ عليها، وفي الواقع كثيرون وكثيرات يُشبهونها، لكنّها غير مختزلةٍ مهنةً، وعاملين وعاملات فيها. لا مثاليات في الواقع، وبعض الفنّ يعكس شيئاً من مثاليات الواقع، أو خرابه. مواجهة الفنّ تعبيرٌ غير مباشر عن نقصٍ في مواجهة الكمّ الهائل من الفضائح الكامنة في مهنٍ مختلفة. فلماذا على الفنّ أنْ "يدفع" ثمن أخطاء وهفوات وخلل في المهن، وفسادٍ في مهنيين ومهنيات، يعجزون عن "ترتيب البيت من داخله" لأسبابٍ جمّة، بعضها مرتبطٌ بهم؟
منذ سنين مديدة، تنكشف ـ بين حينٍ وآخر ـ فضائح مخيفة في مهنٍ لبنانية عدّة، كالطبابة والتمريض والمحاماة والعسكر والإعلام، وغيرها. الفساد ضاربٌ بحدّة في البنيان اللبناني. لكنْ، ممنوعٌ على السينما والتلفزيون المسّ ـ درامياً وفنياً وجمالياً ـ بالمهن، وبينها السياسة والاقتصاد والمال والإعلام، وهذه مليئة بفسادٍ، يُسبِّب خراباً غير مسبوق، يعطب لبنانيين كثيرين منذ عامين على الأقلّ. في دول عربية أخرى، الأمر مُشابهٌ لهذا.
في المهن، أناسٌ غير فاسدين، يحاولون حماية الذات من كلّ ضرر أو خرابٍ أو وهنٍ أو فساد. يُصرّون على سلوكٍ سوي، لقناعة به. هذا صحيح. لكنّ اختيار نموذج سيء غير لاغٍ لحضورهم في مهنهم، فللمخرج أو الكاتب أو المنتج هدفٌ من اختياره، إذْ يُلبّي النموذجُ متطلّباتٍ درامية وجمالية، تعكس موقفاً أو قولاً أو انفعالاً لصانع العمل، وصانع العمل غير مُكترثٍ بالمجموعات، لإدراكه أنّ الشمولية قاتلة، وتُلغي الأفراد وأهواءهم ومشاغلهم وأمزجتهم وتأمّلاتهم وأفكارهم.
تشويه الصورة أو الإساءة إلى سُمعة بلدٍ أو مهنة إقرارٌ ضمنيّ بفشل من يتَّهِم في مواجهته خللاً حاصلاً في مهنته ونقابته، والخلل معروفٌ لانتشاره بين أناسٍ كثيرين، بوسائل مختلفة. الفنّ غير هادفٍ إلى محاكماتٍ. اختيار السيئ غير مُنصبٍّ في خانة اتّهامٍ، فمحاكمة. هذا ليس عمل الفنّ. لاختيار السيئ أسبابٌ، ينطلق صانع العمل منها، أو من أحدها، لتبيان فوضى، أو لقول واقعٍ حسّي وملموس ومعروفٍ.
هذا يحصل حالياً، كحصوله سابقاً. لا شيء يتغيّر، فالخراب كثيرٌ، والعطب كبيرٌ، والفساد حاضرٌ، كالجهل أيضاً.