وثائقي "داهومي": حين تؤرّخ السينما عودة التراث المنهوب

29 سبتمبر 2024
ماتي ديوب والدب الذهبي في برلين عن فيلمها "داهومي"، فبراير 2024 (Getty)
+ الخط -

بعدما فرضت الممثلة والمخرجة الفرنسية ذات الأصول السنغالية ماتي ديوب حضورها المميز على جمهور مهرجان كانّ بفيلمها "أتلانتيك" عام 2019، الذي فاز بالجائزة الكبرى للمهرجان آنذاك، تعود ديوب اليوم إلى الأضواء، وبقوة، بعدما فاز فيلمها الوثائقي الجديد "داهومي" بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي خلال دورته الـ74 في فبراير/شباط الماضي.
وإذا كانت ديوب قد عادت إلى جذورها الأفريقية في فيلمها "أتلانتيك" عام 2019 لتناقش قضية الهجرة غير الشرعية التي يشهدها العديد من الدول الأفريقية، من خلال تتبّعها قصصَ عدد من المهاجرين الأفارقة الذين فقدوا حياتهم في رحلة عبورهم البحر إلى أوروبا، فإنها تعود مجدّداً إلى جذورها نفسها في عملها الجديد "داهومي"، الذي بدأت عروضه الأوروبية أخيراً، مراوحة فيه بين الخيالي والوثائقي، ولكن هذه المرة بصفتها مؤرّخة لعملية استعادة عدد من القطع الأثرية الأفريقية المنهوبة، التي نُقلت إلى المتاحف الفرنسية أثناء النهب الاستعماري لعدد من البلدان الأفريقية، ومن بينها السنغال وبنين.
تقول ماتي ديوب في بيانها الذي تزامن مع عرض الوثائقي في مهرجان برلين السينمائي الدولي الأخير: "عندما علمت أن فرنسا قررت إعادة 26 قطعة أثرية فقط من أصل سبعة آلاف قطعة منهوبة من كنوز داهومي إلى بنين، أوقفت كل ما كنت أقوم به وقررت أن أصنع فيلماً عن هذه الاستعادة".
يمثل "داهومي" (68 دقيقة/ إنتاج مشترك بين فرنسا والسنغال وبنين) ثاني أفلام ماتي ديوب الوثائقية، التي تعتبر اليوم واحدة من أبرز أسماء الموجة الجديدة في السينما الفرنسية والأفريقية وسينما الشتات. تمزج المخرجة في عملها الجديد بين الحقائق التاريخية والرؤية الخيالية التي تكاد تلامس أرض الشِّعر، في سردها عودة القطع الأثرية المنهوبة، التي سرقتها فرنسا من مملكة داهومي التي كانت قائمة جنوبي جمهورية بنين الحالية، في الفترة بين 1600 و1904، خلال فترات الاستعمار الفرنسي التي امتدت منذ عام 1872 وصولًا إلى 1960. وقد ظهرت القطع المنهوبة قبل عقود معروضة في متحف "دو كاي برانلي" للفنون غير الأوروبية في باريس. وبعد حملة دولية قادها عدد من الدول الأفريقية لاستعادتها، وافقت فرنسا - وعلى مضض - على إعادة 26 قطعة فقط إلى بنين، وهو الحدث الذي تم في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وكانت ماتي ديوب وفريق عملها في انتظار تسجيله وتوثيقه.
وفقاً للتقاليد الأفريقية، تبني ديوب الوثائقي عبر ثيمتي الحياة والموت، ما يدفعها بالتالي إلى استدعاء متناقضات أخرى مرتبطة بالحدث الذي تسجله، مثل الماضي والحاضر، والشرق والغرب، والشمال والجنوب، والأصالة والمعاصرة، كل هذا في نسيج مشهدي يمزج بين الوقائع الحقيقية لاسترداد هذه الأعمال الأثرية، وبين ما يدور في عقول القطع المستعادة، وهي تتجهز في متاحف فرنسا للعودة إلى مملكتها القديمة داهومي.
هنا، يدخل الجزء الخيالي في العمل الوثائقي، إذ تمنح ماتي ديوب صوتاً ناطقاً لإحدى القطع الأثرية المستردّة، بالتحديد إلى القطعة رقم 26، وهي منحوتة للملك غيزو Ghezo، أحد ملوك مملكة داهومي القدامى، هذا الصوت الناطق بنص شِعري كتبه الشاعر الهايتي ماكينزي أورسيل، ووضعه على لسان الملك العائد إلى مملكته القديمة، راوياً فيه، وبصوت يتردّد في الفراغ كما لو كان يأتي من قاع بئر عميقة، قصة نهب الآلاف من القطع الأثرية الأفريقية و"عبورها حدود بلاده إلى البلاد الأجنبية المعتمة"، وصولاً إلى هواجسه التي تدور في عقله أثناء مغادرته مخازن المتحف الفرنسي متوجهاً إلى بلاده: "لم أتخيّل رؤية ضوء النهار من جديد، فهل سأتمكن من التعرف على شيء مما كنت أعرف في الماضي، هل سيعرفني أحد؟ هل هذه نهاية الرحلة"؟

"الرحلة" التي تتبعها ماتي ديوب بعدستها التوثيقية تظهر بعض إجابات أسئلة الملك العائد إلى مملكته القديمة، فعلى الرغم من الاحتفالات الرسمية التي أقامتها بنين فرحاً باستعادة ولو بعض كنوزها المنهوبة، إلّا أن ماتي ديوب لا تكتفي برصد عودة القطع الأثرية فقط، بل تعمل على تتبع النقاش الأكاديمي لطلاب جامعة "أبومي-كالافي" في بنين، الذي يعرضون خلاله وجهات نظرهم حول استعادة الممتلكات المنهوبة، منتقدين ضآلة حجم الأعمال المستردة مقارنة بما لا يزال في حوزة الفرنسيين.
تتعمق ماتي ديوب في طرح النقاش الأخلاقي حول مشروعية بقاء الكنوز المنهوبة في أيدي ناهبيها حتى يومنا هذا، من دون التورط في تحويل الوثائقي إلى خطبة تاريخية أو تنديد سياسي، بل، وكما منحت صوتًا للقطع الأثرية المستعادة، فإنها، كذلك، تترك الكلمة لأصحابها، وتدع شباب بنين يقولون بأنفسهم ما يفكرون فيه من خلال تسجيلها النقاش الطلابي في الجامعة، حيث آلاف العيون الفتية تشعر بالحسرة على الاستعادة المنقوصة، وحيث تتردّد جملة لأحد الطلاب يقول فيها: "هذه القطع الأثرية هي روح شعب، فكيف يحيا شعب دون روحه"؟
في المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض "داهومي" في مهرجان برلين السينمائي الدولي الأخير، قالت ماتي ديوب ردًا على أسئلة الجمهور حول مزجها بين الوثائقي والخيالي في عملها الجديد: "يمكنني القول إن داهومي عمل وثائقي خيالي"! وأضافت: "إذا خرج المشاهدون من قاعة العرض وهم مشغولون بما شاهدوه، فقد نجحت في إضافة شيء جديد ومبتكر إلى السينما، وهذا ما أتوقعه شخصياً من الفيلم".
لم تكن ثقة في غير محلّها إذاً من المخرجة الفرنسية ذات الأصول السنغالية، فمع الإعلان على حصول فيلم داهومي على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الـ74 في فبراير/شباط الماضي، صعدت ديوب لتتسلّم جائزتها، وحينها قالت: "ما زلت مفتونة بشكل خاص بتتبع تأثير نهب التراث على لاوعي الشعوب المسروقة، لذلك فإن السؤال الذي أطرحه على نفسي دائمًا هو: كيف تعي خسارة شيء ما.. لا تدرك أنك فقدته؟
من الصعب عدم التورط في المتاهة التي يدخلنا إليها سؤال ماتي ديوب هذا، خاصة بالنظر إلى كمّ الكنوز التاريخية والأثرية المنهوبة من عالمنا العربي، والتي لا تزال تملأ ردهات ومخازن أشهر وأكبر المتاحف العالمية الكبرى. قبل أسابيع قليلة فقط، ظهرت على مواقع الإنترنت محتويات العديد من المتاحف السودانية بأسعار بخسة و"مهينة"، بعد نهبها في الحرب العبثية المندلعة هناك منذ شهور، ومن قبل، نهبت متاحف وآثار مصر والعراق وسورية وغيرها من البلدان العربية، فهل تحركت مؤسسة عربية ما لتطالب باستعادتها؟ هل ثمة عمل سينمائي أو وثائقي عربي ما - على غرار "داهومي" مثلًا - تصدّى لإعادة هذه المطالبة باسترداد كنوزنا المسروقة إلى الساحة الفنية والسينمائية، كما فعلت ديوب؟
أسئلة عديدة يفجرها سؤال المخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب، التي، أيضاً، لم تنس أن تقولها صراحة وهي تتسلّم جائزة الدب الذهبي في قلب ألمانيا التي تشهد تصاعداً حاداً لأصوات اليمين المتطرّف: "أنا أقف مع فلسطين!"
 

المساهمون