لا تخلو برامج المهرجانات السينمائية الكبرى من أفلامٍ "عن السينما"، أي تلك التي تتناول تاريخ صناعة السينما في بلدٍ ما، أو موجة سينمائية، أو مدرسة، أو نوعاً معيّناً من الأفلام، أو مخرجاً، أو مُصوّراً، أو كاتب سيناريو، مُعاصراً أو راحلاً، أو ناقداً مُكرّساً. هذا نوعٌ من الأفلام غزير الإنتاج، ليس موجوداً إطلاقاً في صناعة السينما العربية، رغم اتّساعها وقِدَمِها، باستثناء حلقة تلفزيونية، عابرة أو قديمة؛ وحلقاتٍ عن سينما يوسف شاهين.
في الغرب، جميع المخرجين، تقريباً ـ مع أعمالهم وسيناريوهاتهم وأرشيفاتهم ومذكّراتهم، وغير ذلك ـ يُستَغَلّون بأفضل طريقةٍ ممكنة، في فيلمٍ أو أكثر. هذا يفتقر العالم العربي إليه. لذا، تتضارب المعلومات وتنقص عن غالبية المُكرَّسين والمشهورين، والمعاصرين منهم أيضاً.
يضاف إلى هذا، أنّه ـ حتى اللحظة ـ لم يتحدّث مُخرجٌ عن تاريخ السينما في بلده، أو في العالم العربي أو العالم، كما فعل كبار المخرجين، وبينهم من شَرَح تاريخ السينما منذ بداية التفكير في اختراعها، مروراً بفتراتها المختلفة، من الصامتة إلى الناطقة، ومن الأسود والأبيض إلى الألوان. آخرون توقّفوا عند جماليات مُخرجين وأفلامٍ. هناك مخرجون ومُصوّرون وكتّاب سيناريو تحدّثوا عن علاقاتهم بالسينما، وبأفلامٍ عشقوها أو أثّرت بهم، وبسينمائيين تأثّروا بهم، من دون تناسي أساليب عمل هؤلاء جميعاً.
أفلامٌ للتأريخ والتشويق
أنواعٌ كهذه حاضرة في الغرب دائماً، وسنوياً، للتأريخ والأرشفة والتعليم والتثقيف، أو للتشويق. لذا، تسعى مهرجانات، كبرلين و"كانّ" وفينيسيا، إلى عرض أفلامٍ كهذه، دورةً تلو أخرى. هناك مهرجانات تُكرّس برنامجاً خاصّاً بهذا النوع تحديداً، وتختار له بعض أهمّ "أفلام عن السينما"، المعروضة في مهرجانات أخرى، في دورات العام السابق.
5 أفلام جديدة منتمية إلى هذا النوع السينمائي: "بونِيُوَل: مخرج سوريالي" للإسباني خابيير إسبادا، و"مثل الريح" للأسترالي تَدْ مادونيل، و"جون فارو: رجل هوليوود المنسي" للأميركيين فرانس فيندنبرغ وكلود غونزاليز، و"دجانغو ودجانغو: سيرجيو كاربوتشي غير مُقيّد" للإيطالي لوكا ريا، و"اسأليني أي شيء: فرانز سيتز" للألمانية آني سيتز.
في "بونِيُوَل: مخرج سوريالي"، يُقدِّم إسبادا، بشكلٍ عميق، سوريالية لويس بونِيُوَل، فهو مُختصّ بحياته وأعماله: جذورها وماهيتها، وعلاقة بونِيُوَل بجماعتها، وتأثيرها على فكره وسينماه. ويربط بينها وبين طفولته وأحلامه وهواجسه وكوابيسه، بالإضافة إلى الموت والحياة والجنس والسلطة والحيوانات، والمُشوّهين.
يبدأ الفيلم في كالندا، بلدة بونِيُوَل، مستعرضاً صُوَراً التقطها والده الثري للبلدة، عام 1910. ثمّ علاقة مخرج "كلب أندلسي" (1929) وذكريات طفولته بصُوَر والده. عبر الصُوَر والتعرّف على البلدة، يعرج إسبادا على معجزة كالندا، أو قصّتها الخرافية، التي ظهرت إحالاتها في أكثر من فيلمٍ له، كالسيقان والأيدي والأذرع المبتورة. ورغم استعادة الطرف المبتور وفقاً للمعجزة، لم يكن الأمر كذلك في سينماه، وهذا ما ميّزها كسينما سوريالية، إلى نقاطٍ أخرى كثيرة، أسهب الفيلم في شرحها.
بعد سرد موجز لعلاقة بونِيُوَل بالسريالية، خاصة مع غارثيا لوركا وسلفادور دالي، يُظهر الفيلم كيفية صرفه النظر عن نشر ديوانه "كلب أندلسي"، والذهاب إلى باريس عام 1925، للعمل في السينما مُساعداً وممثلاً في أفلام جان إبستاين. ثم اكتشافه السينما كأداة تعبير عن ذاته ومشاعره وهواجسه وأحلامه ومخاوفه، ومُشاهدته أفلاماً عالمية، جديدة عليه كلّياً. هناك إعجابه أيضاً بالسينما الكوميدية الأميركية، خاصّة سينما باستر كيتون، الذي كتب نقداً سينمائياً عنه وعن أفلامه.
يوضح "مخرج سريالي" كيف أنّ السينما الكوميدية مهمّة لفهم الأفلام الأولى لبونِيُوَل، التي أخرجها في باريس، إذْ رأى أنّ السينما الكوميدية أكثر سريالية، أو تتجذّر فيها السريالية بصدق وعمق، وأنّها أهمّ من أفلامٍ أخرى معروفة ومشهورة في تاريخ السينما لدى النخبة، حتّى مقارنة بأفلام أحد أعلام السريالية، الأميركي مان راي. يسرد الفيلم قصّة صنع "كلب أندلسي" مع دالي، واستقباله عالمياً، واعتبارهما سرياليِّيَن؛ وعلاقة بونِيُوَل بالسرياليّين، وأفلامه اللاحقة، وكيفية استقبالها جماهيرياً، وبعضها هُوجِم ومُنع أعواماً عدّة، كـ"عصر الذهب" (1930).
يذكر بونِيُوَل سبب تركه جماعة السريالية عام 1932: "أرادت السريالية تغيير العالم، لكنّها انتهت بتغيير فترينات العرض". يُركّز خابيير إسبادا على التحوّل والالتزام السياسيين، اللذين سلكهما بونِيُوَل، خاصّة مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، وسفره مع أسرته الصغيرة إلى أميركا، والفترة الصعبة التي أمضاها هناك، قبل انتقاله منها إلى المكسيك للعمل، فتألّق وأبدع. من هنا، بات الفيلم أقوى وأكثر إثارة، مع تدليله على مفردات سينما بونِيُوَل الأكثر التصاقاً بالسريالية والكوميديا الساخرة.
يتنقّل إسبادا كثيراً بين محطات مختلفة في سينما بونِيُوَل: فرنسا والمكسيك وإسبانيا، متوقّفاً عند أهم أفلامها والجوائز الحاصلة عليها، وتعرّضها للمنع، مع التأكيد أنّ مخرج "السحر الخفي للبورجوازية" (1972)، رغم التنوّع، كان ملتزماً جماليات خاصّة، ومفردات فنية مميّزة، لم تتغير كثيراً منذ أفلامه الأولى. ثنائيات وتضادات بارزة، كالواقع والفانتازيا، والموت والحسية، والخيال والحقيقة. هناك أيضاً الحضور الدائم للحيوانات والطيور والحشرات والزواحف، والصورة والأيقونات الدينية المسيحية، والإسقاطات الإيجابية والسلبية المرتبطة بها. كما استعرض أعمالاً تشكيلية كثيرة لفنانين قدماء ومعاصرين، تأثّر بهم أو أثّروا به، كالإسباني فرنثيسكو دي غويا والفرنسي تيسيان والإيطالي ليونارد دافينشي والبلجيكي رينيه ماغريت والسويسري ألبيرتو جياكوميتي.
"مثل الريح"
بإيجاز، يتناول "مثل الريح" لمادونيل سيرة أحد أهمّ أساتذة التصوير السينمائي ومديري التصوير الأحياء، الأسترالي كريستوفر دويل، الذي يتحدّث معظم الوقت إلى الكاميرا ـ بتدفّق، وأحياناً بإسهاب بالغ وصادق وكاشف ـ عن حياته وفلسفته ورؤيته الواقع والوجود والبشر والحبّ والجنس، وعن سفره وتجواله وصعلكته، مبيّناً مدى حبّه للبشر والبشرية، فيظهر تواضعه وبساطته، كما جنونه الملحوظ، بالإضافة إلى حبّه للحياة، وللسينما، وإنْ على نحو أقلّ.
يتحدّث دويل عن خلفيته الأدبية، ذاكراً إعجابه بالبريطاني ديفيد هربرت لورنس منذ مراهقته، وكيف كانت الروايات نافذته على العالم؛ وعن سرقته الروايات والكتب من مكتبةٍ، كانت تُهرّب نسخاً مزوّرة وممنوعة إلى أستراليا، كأعمال الأميركيين آلن غنسبرغ ووليام أس بورّوز، وغيرهما. في الجامعة، يكتشف أنّ الأساتذة لا يحبّون الكتب، فيُصدِم إلى حدّ تركه إياها.
يؤكّد دويل على علاقته الوثيقة، منذ الصغر، بالأدب لا بالسينما. إلى هذا يُعزى نجاحه سينمائياً، كما يقول، إذْ يعشق ترجمة الأحرف إلى صُوَر، وتفجير المعاني المُضمّنة وغير المُضمّنة في النصوص، صانعاً صُوراً نابضة ومحمّلة بثقل هذه المعاني وتأويلاتها. يُقرّ بتفضيله قراءة كتاب على مُشاهدة فيلم. حتّى التصوير الفوتوغرافي لم يرق له. المُثير أكثر أنّه لا يحبّ الذهاب إلى الصالات، باستثناء بعض العروض الخاصة، أو السجادة الحمراء، المُضطر إليها أحياناً. غير ذلك، لا يبقى أكثر من 20 دقيقة، وإنْ تكن أفلامه هو معروضةً، كما ذكر. صوّر "سايكو" (1998) لغاس فان سانت، من دون التفكير في مُشاهدة فيلم ألفرد هيتشكوك (1960) أبداً: "لم أدرس السينما. لديّ فقط معرفة بماهيتها، وبما هي عليه حقاً. يُدهشني من يُدرّسون أفلامي، في حين أنّي لم أدرسها إطلاقاً. لذا، أرفض التدريس وإلقاء محاضرات، إذْ ليس لديّ ما أقوله".
بعيداً عن السينما، يشعر دويل بالامتنان في حياته وخبراته التي عاشها. للبحر وأستراليا والقراءة وعدم دراسته السينما، وهذا جعله ما هو عليه الآن. زار العالم تقريباً. يُتقن لغات عدّة، ويعتبر العربية والإسبانية أروعها، ويتحدّث الصينية بطلاقةٍ، أكثر من إنكليزيّته، بالإضافة إلى تحدّثه الفرنسية والماندارين واليابانية والتاهي والإسبانية. يسرد قصّة طريفة عن اسمه الصيني، ومعناه "مثل الريح"، وأنّه خير تجسيد لشخصيته. يتحدّث عن سبب تعلّمه الصينية، وممارسته الطب الصيني في تايلاند، وعن سبب إمساكه كاميرا للمرّة الأولى، من دون معرفة مسبقة بكيفية التصوير، قائلاً إنّها لا ترصد ما يراه المرء. تحدّث أيضاً عن انطلاق مسيرته في التصوير السينمائي في تايوان، وعن عبثية ما اكتشفه بخصوص التصوير والسينما، والتضارب بين روعة الصورة السينمائية وجمال الواقع وصدقه، مقارنة بما يحدث في السينما.
تحدّث عن تعرّفه على وانغ كار ـ واي، وبداية عمله معه، وعن أفلامهما معاً، وأفضل ما تعلّمه من عمله معه في أعوامٍ عدّة، لتحقيق أفلامٍ، استغرق تصوير وإنجاز كلّ واحد منها نحو 5 أعوام. تصويرٌ يصل إلى 20 ساعة يومياً، أحياناً، في درجة حرارة تقترب من الـ40: "في حين أنّي أصوّر الآن 5 أفلام في العام الواحد"، يقول ضاحكاً. هنا، يبدأ تَدْ مادونيل التركيز أكثر على أفلامه مع كار ـ واي، مُضمّناً مقاطع من مقابلات مع هذا الأخير، يتحدّث فيها عن عمله الشيق والمبدع مع دويل. المخرج الأسترالي فيليب نويس أكّد، أكثر من مرة، على أنّه شخصٌ غير طبيعي، وهذا يظهر فعلياً في شخصية دويل في الفيلم. إلى ذلك، تُذكر آراؤه الصادمة، وشتائمه في أفلامٍ معروفة ومشهورة، وطريقة تصويرها.
أخيراً، يتحدث عن الجراحة التي أجراها لإزالة المياه الزرقاء من عينيه، كي لا يُصاب بالعمى، وصعوبة ذلك عليه، رغم أنّه مستعد تماماً لتحمّل الأسوأ، إنْ لم تنجح العملية. تعلّم عزف البيانو، وامتهن التدليك. تحدّث عن اختلاف الرؤية والمنظور والألوان، والمشهدية السينمائية عنده، قبل العملية وبعدها.
ترك الريح تأخذه في رحلة بعيدة وطويلة. اليوم، يُعتَبر دويل أحد أعظم المُصوّرين السينمائيين في العالم. في العقود الـ3 الماضية، كان الأسترالي المولود في سيدني إحدى الشخصيات المركزية في صعود السينما في هونغ كونغ. لذا، يتحدّث بحبّ عن عشقه للسينما هناك، وعن صداقاته وأحبّائه وحياته، وعن أهمّ من عمل معهم، إلى وانغ كار ـ واي، كغاس فان سانت وتشانغ ييمو وأليخاندرو خودوروفسكي وجيم جارموش ومارك كازنز.
فارو وسباغيتي وألمانيا
من أستراليا أيضاً، تُعرَّف سينما جون فارو، في "جون فارو: رجل هوليوود المنسي"، لفندنبرغ وغونزاليز. على غرار كريستوفر دويل، سافر فارو في أنحاء العالم، وتعلّم لغات عدّة. في شبابه، تسلّل إلى سفينةٍ متّجهة إلى أميركا، في عشرينيات القرن الـ20، وصار مهاجراً غير شرعي. اعتُقل وسُجن، وقبيل ترحيله تحوّل مسار حياته كلياً، إذْ بدأ يكتب للسينما الصامتة، ثم انتقل إلى التمثيل والإنتاج، وامتهن الإخراج مع دخول الصوت إلى صناعة الأفلام.
تألّق فارو سريعاً بفضل "هروب طرزان" (1932)، الذي أخرجه مع ريتشارد ثروب وجيمس ماكاي. ثم صار نجماً هوليوودياً بامتياز. مارس الكتابة المسرحية والروائية والدينية. ورغم حياته القصيرة (58 عاماً)، عمل كثيراً في السينما، منجزاً 50 فيلماً، ونال جوائز عدّة، أبرزها 5 "أوسكار" عن "حول العالم في 80 يوماً" (1956)، الذي أخرجه مع ميشيل أندرسون.
يتناول "رجل هوليوود المنسي" أفلاماً عدّة لجون فارو، بالتوازي مع سرده قصّة حياته، على ألسنة أقارب وأبناء له، ونقّاد سينمائيين، أميركيين وأستراليين. ركَّز المخرجان طويلاً على قصّة زواجه بنجمة السينما آنذاك، مورين سوليفان، التي لها أدوار عدّة مشهورة، أبرزها جين في مجموعة أفلام طرزان. أنجبا معاً 7 أبناء، بينهم الممثلة ميا فارو، غير الحاضرة في الفيلم، الذي تبرز فيه أهمية جون فارو، ومكانته في السينما الهوليوودية. ورغم كونه من روّاد هوليوود، وأحد أغزر مخرجيها، لم يحظ باهتمام وتقدير كثيرين في النقد، مُقارنة بآخرين، ومنهم غير أميركيين عملوا في أميركا، كبيلي وايلدر وألفريد هيتشكوك.
في "دجانغو ودجانغو: سيرجيو كاربوتشي غير مُقيّد"، يتناول لوكا ريا سينما "وسترن سباغيتي" لدى المخرج الإيطالي سيرجيو كوربوتشي. فيه، يتحدّث الأميركي كوينتن تارانتينو معظم الوقت، سارداً أمام الكاميرا سبب غرامه بالرجل، وهيامه بسينماه. يُسهب في حديثه، بمبالغةٍ أحياناً، عن جماليات سينما كاربوتشي، وعظمة الرجل في أفلام الوسترن تحديداً، إلى حدّ وضعه إياها في المرتبة الثانية من حيث الأهميّة بعد أفلام سيرجيو ليوني.
يرى تارانتينو أنّ كوربوتشي يختلف عن غيره كثيراً، لعدم رغبته في فلسفة الوسترن وجعله شاعرياً، ولإخلاصه للوسترن كنوعٍ بحدّ ذاته. يضيء تارانتينو مسائل كثيرة في سينما كوربوتشي، كالوحشية والقتل المجاني، وخاصة العنف الغالب فيها، مؤكّداً أنّها أكثر عنفاً من غيرها في النوع نفسه. هناك أيضاً السيطرة الكبرى والطغيان الكامل للبطل الشرير، والحضور القوي والبارز لأنداد البطل الوحيد. فيها الأبطال غير مُخلَّدين، إذْ يسهل جداً أنْ يموتوا أو يُقتلوا في النهاية. إلى جانب عدم اعتماد واهتمام كوربوتشي كثيراً بالنهايات السعيدة في معظم أفلامه، إضافةً إلى كونه أول من قدَّم الوسترن الكوميدي.
بخلاف شرح تارانتينو، حاول لوكا ريا إلقاء الضوء على أعمال كوربوتشي، وسينما الوسترن المختلفة، الخاصّة به، ومدى أهميتها وتنوّعها، أشهرها وأكثرها لفتاً للأنظار وتنبيهاً إلى موهبة كوربوتشي، "دجانغو" (1966)، الذي ركّز على أهمية سينما "الوسترن سباغيتي" الإيطالية، وقدّم فرانكو نيرو في أول بطولة له، الذي سيُصبح لاحقاً نموذجاً لا يُنسى لأبطال الوسترن في أفلام كوربوتشي، الذي كان أول من جعل الفرنسي جان لوي ترنتينيان يمثّل في فيلم وسترن إيطالي، للمرة الأولى في حياته، في "الصمت الكبير" (1968)، أمام الألماني كلاوس كينسكي. المُثير في الأمر أنّه أخرس في الفيلم.
يُؤكّد "دجانغو ودجانغو" مراراً على براعة كوربوتشي وذكائه وتجديده في هذا النوع، وإخلاصه له، مُشيراً إلى عدم توقّفه (عن العمل) بعد انتهاء عصر الوسترن، فهو لم يعتزل السينما، مواصلاً العمل، لكنْ في الكوميديا، حتى وفاته عام 1990 عن 64 عاماً. الفيلم لا يخرج عن سينما الوسترن إلى أفلامٍ أخرى له، وعددها كثيرٌ، ولا إلى حياته وفكره وفلسفته.
"اسأليني أيّ شيء: فرانز سيتز" لآني سيتز عن محطات مهمّة وبارزة في حياة جدّها فرانز ومهنته، فهو أحد أهمّ منتجي الأفلام في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرز المساهمين في تشكيل صناعة السينما الألمانية وتطويرها، في مراحل حاسمة في تاريخها الحديث. إنتاجاته وأفلامه وكتاباته القليلة للسينما صنعت مرحلة بارزة ومهمّة في تاريخ الفن السابع، حتّى رحيله عن 86 عاماً، مطلع القرن الـ21. تقوم آني برحلةٍ لمعرفة المزيد عن عمل جدّها وحياته، وكشف قصصه السينمائية والشخصية. الأسئلة التي رغبَتْ في أنْ تسأله إياها منذ صغرها، تطرحها عليه وعلى أصدقائه وزملائه وأبنائه، ما جعل الفيلم صورة شخصية ولمحة عن تاريخ السينما الألمانية وكواليسها، في آنٍ واحد، بأسلوبٍ سينمائي يمزج بين المقابلات واللقطات الأرشيفية والصور ومقاطع الأفلام.
فيه تظهر ثقافة فرانز سيتز واطّلاعه وجرأته. قدم كلاسيكيات أدبية للسينما الألمانية والعالمية، كأعمال روبرت موزيل، "تورليس الصغير" (1966) لفولكر شلوندورف، وتوماس مان، الذي أخرج له "دكتور فاوستوس" (1982). فيه أيضاً يبرز رهانه على رواية "الطبل الصفيح" (1959) لغونتر غراس، وإصراره على فولكر شلوندورف لإخراج فيلمٍ مُقتبس منها. بعد رفضه العرض في البداية، خوفاً من الإخفاق، وبسبب ثقل الرواية وأهميتها. لكن سيتز أقنعه، وأقنع غراس باقتباسها للسينما، جامعاً إياهما معاً للمرة الأولى، كصديقين وكفردين في فريق العمل، وهذا أخرج إحدى أهمّ التُحف إلى النور. فاز "الطبل الصفيح" (1979) بأول جائزة "أوسكار" في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.