أعادت القضية التي فجرها القنصل الليبي السابق في مصر عادل الحاسي مؤخراً، والمتعلّقة بتجاوزات مالية وإدارية في القنصلية، ملف الفساد في ليبيا الى الواجهة. ووصلت القضية إلى مكتب النائب العام لفتح تحقيق.
وعلى الرغم من أن مراكز الأبحاث العالمية تشير إلى تحسن الأوضاع في ليبيا، وكان آخرها مؤشر الدول الهشة الصادر عن مجلة فورين بوليسي للعام 2018، الذي أشار إلى تقدمها مركزين عن مكانها العام الماضي، فإن ملفات الفساد التي بدأ الكشف عنها مؤخراً قد تعيدها إلى قاع سلم مراتب الفساد في العالم.
في الثالث من مايو/ أيار الجاري، وبعد إقالته من منصبه، ظهر القنصل الليبي السابق لدى مصر عادل الحاسي، على شاشة فضائية محلية ومعه كم كبير من الوثائق التي عرضتها القناة، وكشف من خلالها فساداً إدارياً ومالياً تورطت فيه حكومتا الوفاق في طرابلس ومجلس النواب في طبرق.
وطاولت الوثائق، وهي عبارة عن خطابات ومراسلات رسمية بين القنصلية ومسؤولي حكومتي الوفاق ومجلس النواب، والتي استعرضها الحاسي، شخصيات سياسية بارزة، من بينها عضو مجلس النواب زياد دغيم، المعروف بولائه الشديد لحراك حفتر العسكري. واتهمه بتعيين والده البالغ من العمر 71 سنة موظفاً في القنصلية.
وبيّنت رسالة موجهة من وزير الخارجية في حكومة الوفاق محمد سيالة مطالبة بصرف رواتبه. كما أظهرت الوثائق تورط كل من عضو المجلس الرئاسي فتحي المجبري، ووزير المالية في حكومة الوفاق أسامة حماد، ووزير التعليم عثمان عبد الجليل، في السعي إلى تمديد عقد عمل والد دغيم، على الرغم من تقاعده منذ أكثر من 15 عاماً.
وطاولت الوثائق علي القطراني عضو المجلس الرئاسي في حكومة الوفاق وممثل حفتر فيه، كاشفة عن تورطه في تزوير ملكية أراضٍ للدولة الليبية في مصر وبيعها لصالحه بمالغ تزيد عن 850 مليون دولار.
وإثر تداول الإعلام الليبي هذه الوثائق، أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق قراره بفتح تحقيق موسع في القضية، وطالب مكتب النائب العام بفتح تحقيق حولها، وهو ما أعلن عنه النائب العام لاحقاً.
واعترف عيسى الصغير وكيل وزارة العدل المنبثقة عن مجلس النواب في طبرق، بتضخم ملف الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة، مؤكداً أن شخصيات نافذة تسعى للاستفادة من هشاشة الدولة لتحقيق أرباح مادية.
ويقول الصغير لـ "العربي الجديد": "الأمر لا يتوقف عند حدود هذه القضية التي نرى أن فيها شيئاً من الصحة، لكن التأكد من صحة ما عرض يتطلب تحقيقاً موسعاً، إذ يطاول الأمر قضايا أخرى تخص الأملاك والاستثمارات الليبية في الخارج"، لافتاً إلى وجود هجمة من أطراف خارجية تستخدم شخصيات محلية لرفع دعاوى قضائية في محاكم في الخارج بغية الاستحواذ على هذه الممتلكات والاستثمارات.
ولدى طلبنا منه الحديث بالتفصيل وكشف بعض من هذه القضايا، رفض الصغير قائلاً: "أعتقد أن الأمر غير متاح للإعلام، ونحتفظ بالكثير من القضايا التي نتابعها بدقة لجمع الأدلة وتقديمها للقضاء".
ناجي القلال، وهو محام ليبي مطلع على ملفات الفساد المالي، يقول إن "السبب الأول لكثرة ملفات الفساد هو انقسام مؤسسات الدولة"، ضارباً مثلاً حول قضية الفساد في القنصلية الليبية في مصر.
ويوضح أن "التمثيل الليبي في صراع، فالقنصلية تابعة لحكومة مجلس النواب في طبرق والسفارة تابعة لحكومة الوفاق والكوادر الوظيفية في صراع وانقسام، ما أتاح الحصول على خطابات وتراخيص بالتصرف أو نقل الأملاك من جهة إلى أخرى، وبالتالي تسهيل التصرف فيها وبيعها".
ويلفت القلال إلى متابعته ملفات الفساد في البلاد مع مكتب النائب العام في إطار مرافعته في قضية شركة أوغندا للاتصالات المملوكة للمؤسسة الليبية للاستثمار، والتي صادرتها أوغندا قبل عامين، كشفت له عن عمل حثيث من قبل مكتب النائب العام في محاولة ضبط ومتابعة هذه القضايا.
ويؤكد أن "زملاءه المحامين في مكتب النائب أكدوا عجزهم عن متابعة القضايا بسبب تكدسها وتعقيدها بين الداخل والخارج"، مشيراً إلى أن شخصيات نافذة في حكومات ليبية متورطة بشكل كبير في قضايا فساد بملايين الدولارات، استعانت بمليشيات مسلحة لتهديد مسؤولي مكتب التحقيقات في مكتب النائب العام.
ويقول القلال: "الأمر لا يتوقف عند كشف التزوير، بل يطاول شخصيات ذات مناصب إدارية وسياسية رفيعة تورطت في الرشى لتمرير المعاملات". ويذكر أن تقريراً أكد وجود 700 موفد للدراسة في الخارج، من دون أن يكون لديهم حتى مؤهل المرحلة الإعدادية.
كما أن 9818 طالباً في جامعة طرابلس لوحدها يحصلون على منح دراسية بالتزوير، إضافة إلى وجود 1945 موظفاً وهمياً في الجامعة نفسها.
ويضيف: "نتحدث عن جامعة واحدة من أصل 18 جامعة تابعة لوزارة واحدة وهي وزارة التعليم"، لافتاً إلى أن القضية تحتاج إلى متخصصين وعمل طويل لملاحقة ملفات أخرى أكثر سخونة كملف تهريب الوقود، والفساد المالي في الاعتمادات المستندية التي يمنحها البنك المركزي لأعداد لا يمكن ضبطها أو حصرها، وغالبيتها وهمية.
ويقول إن "مشكلة متابعة ملف الفساد ترتبط بعمق وقدم الملفات، إضافة إلى عدم وجود سلطة جلب"، مضيفاً أن "مكتب النائب العام استدعى في فبراير/ شباط الماضي تسعة مسؤولين سابقين، من بينهم رئيس المؤتمر الوطني السابق نوري بوسهمين، ورئيس الحكومة علي زيدان وقتها، للتحقيق في شبهات فساد مالية كبيرة وتجاوزات إدارية. لكن أحداً لم يستجب".
ويؤكد أن الانقسام المؤسسي والسياسي يساعد على التهرب، مستدلاً بتصريحات الناب زياد دغيم الذي أعلن عن عدم رضوخه لأي طلب قضائي، قائلاً إنه لا يثق بمكتب النائب العام في طرابلس ولا محاكم طرابلس بسبب وقوعها تحت سيطرة حكومة الوفاق التي لا يعترف بها.
ويكشف أن "دولاً كبرى وإقليمية ترتبط بهذه الملفات، وهي تدعم أطرافاً محلية. وبالتالي، لن تتمكن هذه الجهات القضائية من فتحها"، مشيراً إلى قضية تهريب الوقود الليبي وتورط مسؤولين مالطيّين فيها بشكل كبير.
ويتحدث القلال أيضاً عن ملف التجنيس وجهود مصلحة الأحوال الشخصية في مقاومته، قائلاً: "مؤخراً، أصدر النائب العام قراراً بوقف منح الجنسية الليبية. وأعتقد أن ما كشفه القنصل الليبي السابق في مصر عن منح 5 آلاف أجنبي الجنسية الليبية بطريقة غير قانونية أمر صحيح، لكنه لم يكشف عن كامل العدد"، مشيراً إلى استفادة هذه النوعية من الفساد من انقسام مؤسسة الأحوال المدنية إلى إدارتين في الشرق والغرب.