منذ انتخاب الملياردير دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة وحتى الآن، لا تعكس التعاملات التي جرت في أسواق الصرف والبورصات العالمية أسساً واقعية للاقتصاد أو المال، يمكن أن يبنى عليها تحليل عقلاني في قياس التوجهات المستقبلية للسوق، بقدر ما تعكس حالة من الاضطراب والحذر الذي ساد أوساط الاستثمار في أعقاب المفاجأة الأميركية.
لقد كان الكل يبحث عن غطاء لحماية موجوداته في أعقاب إعلان نتيجة الانتخابات، حينما انجلى الغبار عن فوز ترامب، وبالتالي يلاحظ أن حال أسواق المال خلال الأيام الأولى وحتى يوم أمس الأربعاء، كانت لا تختلف عن حال الناخب الأميركي الذي شعر بالصدمة والذهول من النتيجة، خاصة في عواصم المال والتجارة والنخب بالولايات الأميركية بدءاً من نيويورك وانتهاءا بشيكاغو ولوس أنجليس.
المحللون كانوا يتوقعون أن ينخفض الدولار في حال فوز دونالد ترامب، ومعها تحدث عمليات بيع ضخمة وواسعة للموجودات الأميركية، لكن يلاحظ أن الدولار عاد للارتفاع بعد الهبوط المحدود الذي شهده في الساعات الأولى من إعلان نتائج الانتخابات الأميركية، كما أن مؤشر داو جونز الذي يقيس أداء الأسهم الكبرى في البورصة الأميركية حقق ارتفاعاً قياسياً.
والشيء الوحيد الذي تحقق من تنبؤات خبراء المال والأسواق، هو خسارة السندات الأميركية والعالمية قرابة ترليون دولار في الأيام الأولى من فوز ترامب، ولاتزال الأموال تهرب من السندات، وسط الترقب لإشارات أكثر وضوحاً من الرئيس الجديد حول سياساته المالية والنقدية وسياسات الاقتصاد الكلي.
لكن يبقى السؤال المهم، لماذا حدث هذا الارتفاع الحاد في سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية، وإلى أين يتجه الدولار خلال الفترة المقبلة؟
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تحليل أربعة عوامل رئيسية، وهذه العوامل هي توجهات النمو الاقتصادي الأميركي في عهد ترامب، وتوجهات الفائدة الأميركية، ومستويات الطلب على الدولار والموجودات الدولارية، وحجم الديون المقيّمة بالدولار.
ويرى مصرف التسويات الدولية الذي يوجد مقره في سويسرا، أن قوة الدولار الحالية، لا تعكس قوة في الاقتصاد الأميركي وربما تكون مؤشراً إلى زيادة المخاطر المالية وسط الشحة التي تعاني منها الأسواق في السيولة الدولارية.
وحسب خبراء المصرف الدولي فإن هذه الشحة الدولارية أو النقص الشديد في السيولة الدولارية ربما تكون سبباً كافياً لبنك الاحتياط الفدرالي ( المركزي الأميركي) بعدم رفع الفائدة رغم احتمالات ارتفاع التضخم على الدولار.
وفي ذات الصدد، يحذر مصرف "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي في مذكرة للعملاء أمس، من أن رفع الفائدة الأميركية سيكون من الأخطاء الفادحة في ظل هذه الظروف.
على صعيد توقعات النمو الاقتصادي في عهد ترامب، هنالك تباين بين توقعات خبراء الاقتصاد وبين حركة سوق المال الأميركي.
مثلا قبيل الانتخابات توقع معظم خبراء المال أن تقود برامج ترامب أميركا إلى الركود الاقتصادي، ولكن كان من الملاحظ أن أداء سوق "وول ستريت" في الأسبوع الماضي يشير إلى أن الاقتصاد الأميركي سيواصل النمو خلال العام المقبل.
في هذا الصدد، يرى معهد "بيترسون" للدراسات الاقتصادية أن سياسات ترامب التي أعلنها في برنامجه الانتخابي تشير إلى أن الميزانية ستعاني في عهده من عجز كبير.
ويقول المعهد في دراسة موجزة إن هذا التوقع مبني على عاملين هما:
أولاً: أن ترامب ينوي خفض الضرائب، وهو ما يعني خفض الدخل الحكومي.
ثانياً: أنه ينوي زيادة الإنفاق، خاصة البند الخاص بإنفاق 500 مليار دولار على البنى التحتية، وهو ما سيترجم في زيادة الصرف ونقص الموارد المالية، وهذا يعني زيادة العجز في الميزانية، وهو ما سيجبر حكومة ترامب على اللجوء للأسواق للاقتراض. وبالتالي فربما تكون الحكومة من الناحية العملية بحاجة إلى سياسة نقدية مرنة أكثر من سياسة نقدية مشددة، وبالتالي وعلى صعيد رفع الفائدة، يرى مصرفيون أن العجز في الميزانية سيجبر إدارة ترامب على عدم رفع نسبة الفائدة.
وشكك "مصرف بانك أوف أميركا ـ ميريل لينش"، في تحليله الصادر أول أمس الثلاثاء، في احتمال رفع الفائدة الأميركية خلال العام الجاري، بسبب الضعف الاقتصادي وحال عدم اليقين تجاه المستقبل في أميركا.
وخفض المصرف الاستثماري توقعاته لمعدل النمو الاقتصادي في أميركا من 2.7% إلى 1.8% خلال العام المقبل، كما توقع انخفاض معدل النمو في الوظائف ومعدل النمو الاستهلاكي.
وخلص إلى أن العام المقبل، وهو أول عام للرئيس دونالد ترامب، سيشهد ضعفاً في النمو الاقتصادي، وسيكون من الصعب معه رفع معدل الفائدة.
ورجح مصرف "بانك أوف أميركا ـ ميريل لينش" أن يرفع بنك الاحتياط الفدرالي سعر الفائدة مرة واحدة بين ديسمبر/ كانون الأول المقبل وحتى نهاية العام المقبل 2017، بدلاً من التوقعات السابقة التي قال فيها إن الاحتياط الفدرالي سيرفع الفائدة ثلاث مرات.
على صعيد الطلب على الدولار، من المتوقع أن يتواصل الطلب القوي على العملة الأميركية في آسيا خلال العام المقبل، بسبب تدهور سعر صرف اليوان الصيني واضطراب الأسواق الآسيوية.
ومن المتوقع في حال تطبيق ترامب لسياسته الخاصة بالحماية التجارية للسلع الأميركية وفرض ضرائب على السلع الصينية، أن يؤثر ذلك على نمو الاقتصاد الصيني.
ومن ناحية أخرى، يرى خبراء أن ضعف اليوان وحدوث اضطراب في الأسهم الصينية سيقود إلى هروب الأموال من الصين وبعض دول آسيا، خاصة من قبل الأثرياء الباحثين عن شراء موجودات لحماية ثرواتهم أو التحويلات المباشرة للحسابات الدولارية في مصارف "الأفشور"، وبالتالي من المتوقع أن يساهم ذلك في زيادة الطلب على الدولار.
ويلاحظ أن الصين صرفت حوالي 800 مليار دولار خلال السنوات الثلاثة الماضية لحماية سعر صرف اليوان.
أما العامل الرابع فهو احتمال ارتفاع الطلب العالمي على الدولار، بسبب حاجة الشركات والحكومات في الدول الناشئة لتسديد الديون الدولارية التي استدانتها خلال السنوات الماضية، وهذا العامل سيضاعف من الشحة الدولارية التي ستساهم تلقائياً في رفع سعر صرف الدولار.
يذكر أن الدولار ارتفع إلى أعلى مستوياته في 11 شهراً أمام سلة عملات رئيسية بالتوازي مع قفزة في عوائد السندات الأميركية مع مراهنة المتعاملين على أن السياسات المالية والتجارية لإدارة دونالد ترامب، ستؤجج التضخم.
ويلاحظ أن الدولار استهل التعامل في الأسبوع الجاري بالارتفاع أمام كل من اليوان الصيني الذي تراجع إلى أقل سعر له مقابل العملة الأميركية منذ ما قبل إطلاق سوقه الخارجية في 2010.
كما ارتفع مقابل اليورو الذي فقد حوالي 1.1% ليسجل 1.073 دولار بعد أن بلغ أدنى مستوياته منذ الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2015.
من هذا المنطلق ترجح المصارف العالمية ارتفاع الدولار خلال الفترة المقبلة وأن سياسات ترامب الاقتصادية ستجبر بالأحرى بنك الاحتياط الفدرالي على اتباع سياسة مرنة وليست متشددة.