من حق الإنسان المراقب للأحداث أن يتساءل إن كانت هنالك علاقة طردية بين التقلبات في المناخ والتقلبات في الأخبار السياسية والاقتصادية التي يسمعها، وما تكاد تسمع عن عاصفة بسرعة 180 كيلو متراً في الساعة تضرب ساحل عُمان، حتى تسمع أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد قرّر عدم حضور قمة سنغافورة مع الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون. وتسمع عن إعصار يضرب ولاية ماري لاند، وعاصمتها بالتيمور، فنسمع عن نشاط قوي للتحضير لتلك القمة.
من حق المواطن العربي أن يتساءل حول فرص تنمية الإنسان في ظل ما نراه من معاناة إنسانية عبر العالم، خصوصاً في دنيا الإسلام ودنيا العرب، نصم الآذان عن غزة، وننسى الصومال ولاجئي الروهينغا، ونتابع قصص الحزن الأليمة في البلدان التي تمزّقها الحروب والفتن، ونسمع عن استهداف لتركيا، وتحديات كبرى في بلاد النيل، وفقر مدقع وبطالة تتربص بنا الدوائر، فماذا يقول المواطن عن هذه الحال الدامية؟ ولمن يحمّل المسؤولية؟
وقد كنت، قبل عشرة أيام، أحضر مؤتمراً في كيب تاون في جنوب أفريقيا، أقامته مؤسسة بي إم دبليو الألمانية بالاشتراك مع مؤسسة نيلسون مانديلا وشركة تأمين في جنوب إفريقيا.
وقد دعي إلى المؤتمر حوالي 25 باحثاً وقائداً اجتماعياً من جنوب أفريقيا، وآسيا، وأوروبا وأستراليا. ولم يشارك أحد غيري من العالم العربي، وكان عنوان هذا المؤتمر الحادي عشر "نحو فرص توظيف أكثر إنصافاً".
لكن الواقع أن البحث انصبّ على مفهومي الحكم الرشيد والكرامة. وقد استخدم هذان المصطلحان الإيجابيان بدلاً من الفساد وغياب المحاسبية والشفافية، وقدمت لنا في المؤتمر قضايا لبحثها على المائدة المستديرة.
أما القضية الأولى فقد انصبت على مفهوم القيادة، ما معنى أن تكون قائداً مبدعاً ومؤثراً وناجحاً في تمرير رؤيتك وتطلعاتك؟ وارتبط مع هذا السؤال تساؤل جريء يناقش أداء الرئيس الأول لجنوب افريقيا بعد الأبارتهايد، نيلسون مانديلا، وهل كان ذلك الأداء كافياً لإحداث النقلة المطلوبة في جنوب أفريقيا؟ وهل كان قرار الرئيس مانديلا بالانسحاب من القيادة عام 1994 صائباً ودقيق التوقيت؟
ويعود النقاش الذي يثيره الشباب في جنوب أفريقيا إلى ما حدث بعد نيلسون مانديلا، حيث عاشت البلاد سنوات من حكم جاكوب زوما، عمَّ فيها الفساد وانقضت الشفافية، وغابت الحاكمية الرشيدة.
ومن أجل أن يطّلع المشاركون على تجربة جديدة، فقد رتبوا زيارةً إلى مدرسةٍ للقيادة فيها حوالي مائتان وخمسون طالباً من الذكور والإناث. ويناط بالطلاب في هذه المدرسة مسؤولية قيادة كل المشاريع فيها من مسرح وإذاعة وبرامج نقاشية، ومحاضرات خارجية، ورحلات، وبرامج لخدمة المجتمع، ويُختار القياديون لهذه البرامج مدة سنة، ثم تسلم القيادة إلى شخص آخر في السنة التالية. وهنالك سبع مدارس من هذا النوع في مختلف أنحاء البلاد.
ويعتمد جميع هذه المدارس على التبرعات غير الحكومية، ما يجعلها مستقلةً في منهجها وأسلوب عملها.
ومن أجل تعزيز الشفافية، حضر المشاركون حفلاً وزعت فيه جوائز على سبعة موظفين عامين ممن يقدمون أكثر مما هو متوقع منهم. ويجري ترشيح هؤلاء من المتعاملين معهم من المواطنين. وبعد أن يختصر العدد إلى 40 أو 50، يفتح باب التصويت لاختيار أفضل 6 أو 7 على الجمهور. ومتى ما اختيروا منحوا جوائز رمزية، وليست مادية، وكرّموا لجهودهم.
هذه محاولات من أجل ترويج البعد الإيجابي في تعزيز مناخ الثقة بين القيادة والمواطنين من ناحية، وتعزيز الشعور بالكرامة التي تتحقق بالعمل المتميز الخالي من الرشوة والفساد والحوافز المالية البحتة.
وبقيت القضية الأساسية المطروحة هي: هل تكفي هذه الجهود التي تشكل غيوماً ماطرة لحل أزمة الجفاف والقحط؟ هل يكون الإصلاح تدريجياً، خطوةً خطوة، ومن الأسفل إلى الأعلى، أم أن المطلوب إصلاح أكثر شمولاً؟
وجاءت هنا فكرة التشويش أو ما يسمى بالإنكليزية Distruption، أي أنك تحرّك المياه الساكنة، حتى تحدث هزةً تلفت نظر الجميع من دون أن تفزعهم، وقال بعض المشاركين إن هنالك حاجة إلى إحداث هزة، من أجل إحداث وعي مجتمعي لضرورة التغيير.
وقال بعضهم إن التشويش لا يأتي فقط من القاعدة إلى القمة، ولا من القمة إلى القاعدة، بل من الجانبين متزامناً، حتى يحدث الأثر الأكبر المرغوب.
ما يقوم به الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هو تشويش من الأعلى إلى الأسفل، ويعتمد على عنصر المفاجأة وعدم اليقين إلى أين تسير الأمور، فهل هذا موقفٌ تفاوضيٌّ ومصلحيٌّ، أم أنه موقف إصلاحي؟
المفروض أن يتم التشويش على أسس ديمقراطية، تسمح للمجتمع أن يشارك، وتكون القيادة راغبةً في المشاركة بقوة، والحركتان مطلوبتان للإصلاح الشامل. لقد وجدت في تجربة جنوب إفريقيا دروساً يمكن استخلاصها، وربما التعلم منها في مقبلات الأيام في وطننا العربي.