الضرائب تفكّ اللبنانيين عن زعاماتهم: "طفح الكيل"

بيروت
6FC158A5-E6FC-45FF-AC54-E535E4BE0348
رشا أبو زكي
صحافية اقتصادية لبنانية، محرّرة أولى في قسم الاقتصاد بموقع وصحيفة "العربي الجديد". عملت في عدد من الصحف المحلية والعربية، باحثة في الاقتصاد الاجتماعي. حاصلة على جائزة الصحافة العربية، وتعمل في التدريب على فنون الصحافة الاستقصائية والاقتصادية لصالح عدد من المنظمات اللبنانية والعربية والدولية.
18 أكتوبر 2019
1F42B2D3-D8A6-420E-AB5D-D6D2698A1000
+ الخط -
لم ينم لبنان. شابات وشبان وصلوا نهار الخميس بليله، لزموا الشارع حتى الفجر وتابعوا تحركهم الجمعة. "لا تسخّفوا وجعنا، تحركنا ليس بسبب ضريبة الواتساب، لقد اكتفينا ذلاً". عبارة تكررت على ألسنة المحتجين، من الشمال إلى الجنوب، مروراً ببيروت وضاحيتها.

فاض كيل اللبنانيين من فساد زعمائهم، الانتقادات لم توفّر أحداً هذه المرة. حتى حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، نزل شارعه ضده، في تحركات لفّت الجنوب وتمركزت في منطقة النبطية، حيث ثقل حزب الله، وتوجه المحتجون إلى مكاتب ثلاثة نواب عن الحزب وحركة أمل، في هتافات رافضة لتهميش هموم الناس ومطالبهم.

الجمعة، أغلق لبنان أبوابه. لا مدارس، لا مؤسسات قطاع عام، لا مؤسسات قطاع خاص إلا بعض المتاجر، لا أعمال، ولا تنقلات. فقد تم إغلاق غالبية الطرقات في غالبية المناطق... إنه العصيان. 

هي انتفاضة إذن... لماذا انفجرت الآن؟

شهد اللبنانيون في سبتمبر/ أيلول الماضي تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار. استمر التراجع إلى 1700 ليرة أمام الدولار، في حين ان السعر الرسمي 1507. تم الإعلان عن شح في الدولارات تمظهر في عجز ميزان المدفوعات الذي تجاوز الخمسة مليارات دولار، وتشديد المصارف في تأمين السيولة الدولارية للمواطنين. في حين كان الوزراء يفضحون بعضهم بقضايا فساد دسمة، كان أبرزها ملفا الاتصالات والكهرباء.

بدأت المخاوف تتسلل إلى قلوب المواطنين، يذكرون مرحلة التسعينيات، حين انهارت الليرة إلى 3000 أمام الدولار، وحين خسر اللبنانيون تعويضاتهم وودائعهم وامتص التضخم قدراتهم الشرائية.

في المقابل، بدأت التكتلات الاحتكارية تقطع السلع الأساسية عن المواطنين للضغط على الحكومة لتوفير الدولار للاستيراد بالسعر الرسمي بدلاً من سعر السوق. قطع مستوردو المحروقات والمحطات البنزين بإضرابات متتالية. أوقفت المطاحن والأفران إنتاج الخبز. وهدد مستوردو الدواء بتحركات مشابهة. إزاء هذه الأزمة، لم تتحرك السلطة اللبنانية لتهدئة الخوف.

أصدر مصرف لبنان تعميماً لتأمين الدولار لمستوردي القمح والمحروقات والدواء، غير قابل
للتطبيق. والتزمت الحكومة والبرلمان الصمت المطبق.

اشتعلت الحرائق في غابات لبنان في مطلع الأسبوع، امتدت إلى البيوت. الناس تصرخ استغاثة وخوفاً وقهراً، في حين كانت السلطة بكل أركانها تتخبط بالفوضى. ثلاث طائرات مخصصة لإطفاء الحرائق، بقيت من دون حراك. تم شراؤها منذ أكثر من 11 عاماً، لكن الحكومات المتعاقبة لم تخصص لها اعتمادات للصيانة ولا للتدريب. ملايين الدولارات التي أُنفقت لشراء الطائرات ذهبت هباءً. ارتفع صوت الناس: "إنه الفساد".

بعد هطول المطر، وانطفاء جزء من الحرائق بمساعدة من قبرص والأردن، لم تستشعر الحكومة غضب الناس. انعقد مجلس الوزراء لإقرار موازنة 2020، وبموازاة ذلك، بدأت تتسرب سلة ضريبية سيتم إقرارها من خارج الموازنة.

يوم الخميس، تم الإعلان عن زيادة الضريبة على القيمة المضافة (على السلع) ستُطبق على مرحلتين، الأولى بنسبة 2% عام 2021 و2% إضافية عام 2022، لتصبح نسبة الضريبة الإجمالية المطبقة 15% (تبلغ حاليا 11%). إضافة إلى زيادة الحسومات من المعاشات التقاعدية.

كذا، تم إقرار فرض 20 سنتاً يومياً على مكالمات تطبيق "واتساب" وغيره من وسائل الاتصال عبر الإنترنت، على أن يبدأ تطبيقها مطلع العام 2020، بما يؤمّن للخزينة العامة 216 مليون دولار سنوياً. إضافة إلى بحث زيادة نسبة 3% على صفيحة البنزين.

جاء هذا الإعلان بعد إقرار سلة كبيرة من الضرائب في موازنة العام 2019، طاولت
الاستهلاك والمعاشات التقاعدية ومكتسبات الموظفين، والسلع وغيرها... وسبقتها نحو 27 ضريبة تم إقرارها من ضمن موازنة 2017.

في حين لا تزال رواتب اللبنانيين مجمدة منذ سبعة أعوام، مع إقرار آخر زيادة على الحد الأدنى الأجور في العام 2012 للقطاع الخاص عند 450 دولاراً، في حين تلقى موظفو القطاع العام زيادات على رواتبهم في العام 2017.

وفي غضون هذه الأعوام، زاد التضخم، وتقلصت فرص الاستثمار، فتراجعت الوظائف وارتفعت نسب البطالة والفقر والهجرة.

هكذا، أسست السياسات المالية والنقدية لانفجار الخميس، وبعد نزول آلاف اللبنانيين إلى الشارع، سحبت الحكومة ضريبة الاتصالات عبر الإنترنت، فيما تم إلغاء اجتماع كان من المزمع عقده لإنهاء مناقشات موازنة 2020، وسبق هذا الإلغاء نقل مقر الاجتماع من السراي الحكومي في وسط بيروت حيث تتركز الاحتجاجات إلى قصر رئاسة الجمهورية في بعبدا.

كيف يمكن السيطرة على الأزمة بلا ضرائب؟

يؤكد الباحث والخبير الاقتصادي الدكتور توفيق كسبار، الذي توقع في دراسة نشرها العام 2017، التهديدات التي تطاول سعر صرف الليرة واحتياطي مصرف لبنان والمنظومة النقدية القائمة منذ التسعينيات على تثبيت سعر الصرف، أن "ما فرضه المتظاهرون هو أنه لا توجد ضرائب بعد الآن. كانت الحكومة تحضّر لزيادة الضرائب على البنزين والقيمة المضافة والاتصالات لخفض العجز والقول إنها تقوم بإصلاحات. الآن أُغلق باب الضرائب".

وماذا عن الحل؟ يضيف كسبار لـ"العربي الجديد": "يجب أن يوقفوا المحاصصة والسرقات، ولكن لا أعتقد أنهم سيفعلون ذلك. من جهة أخرى، إذا لم تكن هناك حكومة، فهذا يعني أنه لا توجد قرارات ولا مسؤوليات، وبالتالي تمديد الأزمة وتعميقها". ويشرح: "الذهاب نحو الفراغ الحكومي سيزيد الضغوط على سعر صرف الليرة، ومع هبوطه كيف يمكن ضبط الشارع؟ الجواب عن هذا السؤال يدخل ضمن التكهنات".

ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي إن مروحة البدائل ضيقة جداً. ويضيف: "من
ضيع 25 سنة من الوقت في عدم بناء اقتصاد ومؤسسات فاعلة، فوّت فرصة لا يمكن تعويضها. اليوم لا يوجد وقت كاف، نحن بحاجة للأموال بالرغم من أن المورد المالي المتمثل بودائع الناس هائل ويبلغ 170 مليار دولار 70 في المائة منها مقومة بالعملة الأجنبية".

ويتابع في حديث مع "العربي الجديد": "المتظاهرون يسألون أين ذهبت كل الأموال وكيف يمكن فرض ضرائب على الناس والاقتراض وإصدار سندات ومراكمة الدين العام وخدمته في ظل أزمة كهذه".

ويشرح: "ماذا عن الديون التي تراكمت في ربع القرن الماضي، هل يوجد ملف خدماتي واحد تم إنجازه؟ لا نقل عام ولا كهرباء ولا نفايات ولا مياه ولا صرف صحي ولا بيئة. كل هذه الديون وكل الأموال التي وصلت للسلطة تبددت والآن يريدون مد يدهم إلى جيوب الناس، كيف وقد أُفرغت هذه الجيوب؟".

ويستغرب يشوعي مما قاله أحد الوزراء من أن زيادة الضريبة على القيمة المضافة ستكون كبقية الدول، "ولكن هل بقية الدول تخضع شعبها للفقر وقطع الكهرباء والبطالة؟ هل نحن مثل بقية الدول؟".

ويعتبر أن "السلطة فرطت بالأموال العامة، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة رفع أرباح المصارف لكي ينال الرضى السياسي ويبقى في مركزه. وهذا ما أوصل لبنان إلى مرحلة الانفجار". ويتابع: "الشباب في الشارع يريدون العمل والأكل ودفع أقساط الجامعة والتخابر بأسعار منطقية. لا توجد أياد خفية ولا مؤامرات، المسألة واضحة والمسؤولية واضحة".


وحول الحلول، يشير يشوعي إلى أنه "يمكن ضخ بواسطة شراكة مدروسة ما بين القطاعين العام والخاص 20 مليار دولار في الاقتصاد من خلال الاستعانة باستشاريين دوليين يعملون مع فريق حكومي جديد. على أن تبقى الملكية للدولة وحق المراقبة للدولة، والأهم ألا تتم هذه العملية بظل وجود هذا الفريق في السلطة، الذي يريد نقل الخدمات العامة إلى القطاع الخاص عبر المحاصصة في ما بين أركانه".

أما القطاعات التي يقترح خصخصتها: "الكهرباء، المياه، النقل المشترك، النفايات، الطرق السريعة، المرافئ بإدارتها، إدارة المطار واستحداث مطار تان". ويلفت إلى أن "أي مرفق يخسّر الدولة فليذهب إلى التلزيم، الملكية للشعب مما الخوف؟ هم الذين يخافون من هذه الخطوة".

بدوره، يعتبر الباحث الاقتصادي الدكتور جاد شعبان، أن "البدائل متوافرة، ووضعية التقشف يجب أن تتوقف، رأينا إلى أين أخذتنا هذه السياسة بعدما احترق لبنان ولم تستطع الطائرات إطفاء الحرائق بسبب عدم الصرف على صيانتها".

ويتابع: "يجب إعادة جدولة الدين وخفض خدمة الدين الضخمة، واستخدام الوفر من خلال إنشاء عدد من المشاريع التي تعيد الحركة للاقتصاد". ويشرح شعبان أنه "ليس من المقبول عدم المس بموضوع ديون الدولة من المصارف والفوائد المتراكمة المرتفعة في ظل هذه الأزمة. كما يجب زيادة الضريبة على فوائد الودائع الكبيرة التي تزيد عن مليون دولار، فلتصل إلى 15%".

ويسأل شعبان: "يريدون زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% على الكماليات، ما هي الكماليات؟ من يحددها؟ أي ضرائب جديدة تحتاج إلى دراسة وبرامج محاكاة تستلزم ما لا يقل عن عام لمعرفة آثارها. هناك اعتداء على كرامة الناس، بوقاحة، يوجد فقر وتوجد بطالة ولكن يوجد من يكذب أيضاً".

ويضيف: "نسبة الفقر 35 في المائة وتوجد نسبة كبيرة من اللبنانيين يقبعون عند حد الفقر،
مع زيادة الضريبة على القيمة المضافة سيرتفع الفقر ليطاول 40% من اللبنانيين".

ويتابع: "كما أن 40% من المصارف مملوكة من السياسيين وعائلاتهم والمقربين، و70% من أعضاء المجالس والإدارات هم من المقربين من السياسيين أو وزراء أو نواب حاليين أو سابقين، ولا نعرف كم يأخذون قروضاً بفوائد منخفضة ولا حجم الفوائد التي يتقاضونها على ودائعهم. يوجد ترابط ما بين السياسة المالية والنقدية، فالقطاع المصرفي مرتبط بشكل وثيق بالسلطة".

والجمعة، أدت التحركات الناتجة عن المعالجات السيئة للملف الاقتصادي والنقدي من قبل الحكومة، إلى ارتفاع كلفة التأمين على ديون لبنان لأجل 5 سنوات 14 نقطة أساس مقارنة مع إغلاق الخميس، إلى 1208 نقاط أساس.

كذا انخفضت سندات لبنان السيادية الدولارية 1.9 سنت، الجمعة، بعدما استمرت أكبر احتجاجات منذ سنوات لليوم الثاني في أنحاء الدولة التي تعاني من أزمة اقتصادية. وتكبدت سندات استحقاق 2025 أكبر انخفاض في شهرين، لتتراجع إلى 67.09 سنتاً للدولار.

ذات صلة

الصورة
دبابة إسرائيلية على حدود لبنان من جهة الناقورة، 13 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

اشتدت حدة المواجهات البرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان مع دخول المعارك شهرها الأول من دون أن تتمكن إسرائيل من إحكام السيطرة.
الصورة
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)

سياسة

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج.
الصورة
أنشطة ترفيهية للأطفال النازحين إلى طرابلس (العربي الجديد)

مجتمع

أطلقت منظمات وجمعيات أهلية في مدينة طرابلس اللبنانية مبادرات للتعاطي مع تبعات موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة الأخيرة.
الصورة
دمار جراء غارات إسرائيلية على بعلبك، 25 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات دموية على مناطق عدّة في محافظة بعلبك الهرمل اللبنانية أدت إلى سقوط عدد كبيرٍ من الشهداء والجرحى وتسجيل دمار كبير
المساهمون