بعد مرور أكثر من شهر على إعادة فتح المصانع الأميركية التي أغلقت أبوابها للحد من انتشار وباء كوفيد-19 في مارس / آذار الماضي، تواجه تلك المصانع، وغيرها مما لم يتعرض للإغلاق، مشاكل جمة في الحصول على المنتجات الوسيطة اللازمة لأداء عملها، بعد أن تراجعت بصورة كبيرة الواردات الأميركية من الصين، طوعاً أو كرهاً، في أعقاب انتشار الوباء الذي حصد من أرواح الأميركيين ما يقرب من 125 ألف مواطن ومقيم، وأصاب أكثر من 2 مليون آخرين.
وأُجبرت الولايات المتحدة، اللاهثة حالياً لاستعادة النشاط الاقتصادي، إزاء ذلك الوضع إلى زيادة اعتمادها على الجارة المكسيكية، رغم أن أغلب الشركات في الأخيرة استمر إغلاق مصانعها لفترات أطول مما حدث في الولايات المتحدة، للحصول على احتياجاتها من المنتجات الوسيطة.
والأسبوع الماضي، اضطر الرؤساء التنفيذيون لأكثر من 300 مصنع أميركي للتوقيع على عريضة يتوسلون فيها إلى الشركات المكسيكية التي يتعاملون معها بالعمل على التنسيق معهم بخصوص خطط الإنتاج لديهم، لتجنب حدوث فجوات في الإمداد، كما حدث خلال الفترة الماضية بسبب تعثر وصول المنتجات الصينية.
وفي دلالة على تردي أوضاع التجارة الدولية في الفترة الأخيرة، رد المسؤولون المكسيكيون بأنهم أيضاً يرغبون في ذلك، لكنهم قلقون بشأن تفشي العدوى في المصانع الحدودية، بعد ارتفاع أعداد ضحايا الوباء في الولايات المتحدة.
وقال وزير الخارجية مارسيلو إيبرارد "نحن جزء من سلسلة إمداد عالمية، لكن أولوية المكسيك في الوقت الحالي هي صحة وسلامة المواطنين".
وفي الأسابيع التي أعقبت انتشار الوباء، تم تقديم ما لا يقل عن تسعة مشاريع قوانين منفصلة في الكونغرس تهدف إلى الحد من الاعتماد الأميركي على المنتجات الطبية الأجنبية، تم إعداد أغلبها بالتوافق بين الحزبين، اللذين طالب بعض أعضائهما من المشرعين الأميركيين بسن تشريعات تهدف إلى معاملة القطاع الصحي باعتباره "قضية أمن قومي".
وقالت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وقت سابق إنها تدرس منذ شهر مايو / آيار فرض تعريفات، أو تطبيق نظام الحصص، على وارداتها من الصين، من منتجات مختلفة، لاعتبارات الأمن القومي، تشمل الرافعات المتنقلة والمواد المستخدمة في صناعة المحولات الكهربائية ومعدات الفضاء والطيران.
وعلى الرغم من عدم خضوع عمليات التجارة الدولية لتعليمات "الإغلاق الكبير"، التي استهدفت الحد من انتشار وباء كوفيد-19 وأجبرت الملايين في الولايات المتحدة، كما في أغلب دول العالم، على البقاء في منازلهم، تشير الأرقام الصادرة مؤخراً إلى انخفاض ملحوظ في قيم البضائع العابرة للحدود خلال الفترة الأخيرة، مع وجود صعوبات تمنع عودتها لمستويات ما قبل الوباء في المستقبل المنظور.
وبالفعل، تعالت الأصوات خلال الشهور الأخيرة، في أغلب الاقتصادات المتقدمة مطالبةً بزيادة الإنتاج المحلي، والابتعاد قدر الإمكان عن المستورد، وعن سلاسل الإمداد التي ثبت خطأ المبالغة في الاعتماد عليها، خاصة في حالة سيطرة دولة واحدة على نسبة كبيرة منها، كما كان الأمر مع الصين، التي كانت المورد الأساسي لأغلب بلدان العالم، قبل ظهور الفيروس.
وبعد عقد شهدت فيه الولايات المتحدة، العديد من الأمراض المعدية، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، والعديد من الكوارث الطبيعية التي دمرت آلاف المنازل وعطلت الطرق وشردت الملايين، وحروب تجارية أضاعت على البلاد مليارات الدولارات، بات واضحاً أن الاعتماد على سلاسل الإمداد الخارجية يحمل من المخاطر أكثر كثيراً مما كان متوقعاً.
وخلال الشهور الأخيرة، لم يتفق الحزبان الجمهوري والديمقراطي على شيء سوى ضرورة العودة إلى شعار "اشتر المنتج الأميركي"، خاصة فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي على منتجات الرعاية الصحية.
ولم تكن أميركا البلد الوحيد الذي استهدف تقليل الاعتماد على التجارة الخارجية، حيث منعت حوالي 90 دولة تصدير المنتجات الطبية، وحظر ما يقرب من 30 دولة تصدير المواد الغذائية، وأغلقت ثلاثة أرباع المنافذ الدولية بأنواعها المختلفة، خلال فترة احتدام الأزمة في شهري أبريل / نيسان ومايو / آيار.
ومع وجود ميول سابقة لظهور الوباء في بعض الدول باتجاه السياسات الحمائية الانعزالية، ممثلة في انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والدفع بسياساته التجارية العدوانية وشن حروبه التجارية على شركاء بلاده، كان الوباء بمثابة العامل الذي سرع من التأثير السلبي على معدلات التجارة الدولية، وإن لم يخلقه من فراغ.
ويرى الاقتصادي المصري الدكتور محمود محيي الدين أن هناك مراحل متعددة داخل منظومة الإنتاج، ربما يتم مراجعتها مستقبلاً، لا لاعتبارات اقتصادية فقط، وإنما أيضاً لاعتبارات الواقع العملي فيما بعد انتهاء الأزمة، مضيفاً "قد يكون هناك اتجاه أكبر مستقبلاً نحو توطين التنمية والتصنيع والاستثمار في الدولة أو في الإقليم، وإن خالفت التكلفة مفهوم المزايا النسبية الذي يقوم عليه أساس التجارة الدولية".