شهدت تركيا مؤخرًا اضطرابًا ملحوظًا في سعر صرف الليرة، لأسباب تعود أغلبها لعوامل سياسية أكثر منها اقتصادية، مما استدعى تدخل البنك المركزي عبر إحدى أدوات السياسة النقدية، حيث رفع الفائدة 3%، لتصل إلى 16.5%.
والهدف من الخطوة التي اتخذها البنك، طمأنة المدخرين بأن سعر الفائدة سيعوضهم عن التحول للدولار، وأن احتفاظهم بالعملة المحلية سيدر عليهم أرباحاً أكثر من تلك المتعلقة بالمضاربة، والتي قد تعرضهم لخسائر أكبر في فترات لاحقة.
والآلية التي اتبعها "المركزي التركي" وفق آليات الاقتصاد الرأسمالي صحيحة في الأجل القصير، لكنها تتطلب التنسيق مع باقي جوانب السياسة الاقتصادية (المالية، والتجارية، والاستثمار، والتوظيف)، وإلا ستكون النتيجة لها سلبياتها في الأجلين المتوسط والطويل، والمتمثلة في ارتفاع تكاليف الإنتاج، والتأثير السلبي على قدرات تركيا التصديرية، فزيادة تكلفة التمويل 3% سيكون لها مردود على زيادة تكاليف السلع التصديرية، وقد يؤثر سلبًا على أداء الصادرات، لا نقول إنها ستتحول إلى أداء سلبي، بل سيقلل من قيمة وحجم الصادرات السلعية والخدمية.
لنا أن نتخيل العائد على النشاط الاقتصادي أيًا كان مصدره (زراعي، صناعي، خدمي) يدر عائدًا يغطي نسبة 26% كربح صاف بعد تغطية التكاليف بدون تكلفة التمويل، بحيث تصرف نسبة 16.5% تكلفة التمويل، ويقتنع المستثمر بنسبة 10% على نشاطه.
وحسب مبدأ الاقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز الخاص بالكفاية الحدية لرأس المال، فإن أي نسبة ربح تقل عن 16.5% في الاقتصاد التركي - بفرض ثبات العوامل الأخرى- ستكون نتيجتها خسارة المشروع، وبالتالي الانسحاب من السوق.
فلا ينتظر مثلًا أن تظل المؤسسات الخدمية وعلى رأسها النشاط السياحي في تقديم خدماته بنفس الأسعار السابقة قبل رفع الفائدة، حيث إن السلع والخدمات التي تقدمها السياحة جزء من الاقتصاد، والذي يتحمل تكاليف ارتفاع التمويل.
وما لم تواكب سياسة رفع سعر الفائدة في الأجلين المتوسط والطويل أدوات أخرى تخفف عن مقدمي السلع والخدمات ما يدفعهم للاستمرار في نشاطهم، من خلال خفض الضرائب أو الرسوم الحكومية أو التأمينات على العمال، سيكون الأثر المتوقع هو تراجع معدلات الإنتاج، ووجود ارتفاع في معدلات البطالة، والدخول في حالة ركود.
لكن التوقعات تشير إلى أن ما يتعرض له الاقتصاد التركي بشأن اضطراب سوق الصرف، سيعود إلى أدائه الطبيعي عقب انتهاء الانتخابات في 24 يونيو 2018، وسيكون هناك آثار إيجابية لتعافي الليرة في ظل سيناريو فوز أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وفي هذه الأجواء سيكون بمقدور البنك المركزي اتخاذ خطوات متمهلة في النزول بسعر الفائدة ليكون عند 13.5% أو أقل، بعد أن يطمئن لانتهاء المضاربات على العملة، وأن سعر الصرف يعبر عن أداء حقيقي للعرض والطلب.
المخرج الملائم
ما شهده الاقتصاد التركي من مشكلة طارئة، هو أمر طبيعي في ظل اقتصاد يتبع أدوات النظام الرأسمالي، يمثل سعر الفائدة فيه ركنا ركينا، لذلك وجدنا الاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة (أميركا وغالبية الدول الأوروبية) حريصة على نسب متواضعة للفائدة، فهي في أميركا على أحسن التقديرات 2.5%، وفي نفس الوقت لا يتجاوز التضخم 1%، وهي نسب يصعب تحقيقها في الدول النامية، بل وفي الدول الصاعدة كذلك.
لكن المدرسة الرأسمالية ديناميكية حتى على الصعيد النظري، فالاقتصادي كينز وخلال أزمة الكساد الكبير 1929 طالب بأن يكون سعر الفائدة صفرا، لكي يشجع المستثمرين على الاقتراض وتمويل المشروعات، وخفض تكاليف الإنتاج، مما سيترتب عليه ممارسة النشاط الاقتصادي، وتوظيف يد عاملة، وحصول هذه العمالة على دخول تساعد على زيادة استهلاكهم، وبالتالي ينتقل الاقتصاد من حالة الركود إلى حالة الرواج تدريجيًا.
ويذهب أصحاب مدرسة الاقتصاد الإسلامي إلى أن النظر إلى رأس المال على أنه حبيس سعر الفائدة خطأ اقتصادي، لأنه يخرجه عن دوره الأصيل وهو المخاطرة، وهذه المخاطرة تعمل في إطار نتيجة محسومة، وهي الربح والخسارة.
وفي ظل الدراسات الاقتصادية الحديثة أصبحت المخاطر مجالًا يتحسب له وتدرس آثاره بعناية عند كل قرار يتعلق بالاستثمار.
اقــرأ أيضاً
لذلك من المناسب أن ينتقل الاقتصاد التركي، الذي يشهد نموًا مضطرًا، وقاعدة إنتاجية صلبة، إلى رحابة المشاركة، والبعد عن مخاطر سعر الفائدة، ولا نعني بأن يكون ذلك وفق قرار إدري، لكن وفق خطة تدريجية تعمل على زيادة المساحة التي تشغلها المصارف الإسلامية، وغيرها من مؤسسات التمويل القائمة على المشاركة.
ومن مزايا المشاركة، أنها تجعل الجميع حريصا على توازن السوق والنشاط الاقتصادي، والبعد عن المضاربات، وأن رؤوس الأموال عادة، ما يقابلها أصول حقيقية تساويها، وحتى إن حققت خسائر فتكون في معدلات مقبولة، ويمكن تعويضها، بخلاف المخاطر المترتبة على سعر الفائدة، التي تنتقل آثارها إلى مختلف جوانب الاقتصاد، كما تنتقل النار في الهشيم، كما بينا تداعيات ارتفاع سعر الفائدة على مختلف جوانب النشاط الاقتصادي.
المدرسة التركية
مشكلة تركيا مع سعر الفائدة، أن قطاع الخدمات المصرفية، يعتمد في جزء كبير منه على الاقتراض من الخارج، أو وجود مستثمرين أجانب، وكلتا الصورتين، تعمل وفق آلية سعر الفائدة، ويتطلب الأمر تقوية رأس المال الوطني في تمويل الجهاز المصرفي، فقد بلغت حصة المصارف من تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتركيا 2.7 مليار دولار و 1.2 مليار دولار على التوالي في عامي 2015 و2016.
ومطلوب كذلك زيادة نسبة المدخرات المحلية التي تمثل حسب بيانات قاعدة البنك الدولي 24% من الناتج المحلي الإجمالي في 2016.
تركيا وعبر آلية مشروعات (B .O.T) استطاعت أن تخرج إلى حد ما عن دائرة آلية الديون لتمويل جزء كبير من مشروعاتها الكبرى، مثل المطار المنتظر افتتاحه في 2019 وهو من أكبر مطارات العالم، وكذلك تمويل العديد من الجسور المعلقة، وإن كان الثمن هو خروج عائد هذه المشروعات كربح للشركات الممولة إلى خارج تركيا، لكن تدفقات الاستثمارات الأجنبية سنويًا وكذلك عوائد السياحة توجد نوعا من التوازن مع عملية خروج أرباح مشروعات الشركات الأجنبية بتركيا.
وبقى أن نشير إلى أن تبني أردوغان لمبدأ خفض سعر الفائدة لدفع الاستثمار، تم توظيفه بشكل سلبي من قبل معارضيه والمضاربين بالحرب على الليرة، فمطالب الرئيس التركي مشروعة، ولكنها السياسة التي يمكن لممارسيها أن يقلبوا الحق باطلًا، ولذا على الجميع الحذر.
والهدف من الخطوة التي اتخذها البنك، طمأنة المدخرين بأن سعر الفائدة سيعوضهم عن التحول للدولار، وأن احتفاظهم بالعملة المحلية سيدر عليهم أرباحاً أكثر من تلك المتعلقة بالمضاربة، والتي قد تعرضهم لخسائر أكبر في فترات لاحقة.
والآلية التي اتبعها "المركزي التركي" وفق آليات الاقتصاد الرأسمالي صحيحة في الأجل القصير، لكنها تتطلب التنسيق مع باقي جوانب السياسة الاقتصادية (المالية، والتجارية، والاستثمار، والتوظيف)، وإلا ستكون النتيجة لها سلبياتها في الأجلين المتوسط والطويل، والمتمثلة في ارتفاع تكاليف الإنتاج، والتأثير السلبي على قدرات تركيا التصديرية، فزيادة تكلفة التمويل 3% سيكون لها مردود على زيادة تكاليف السلع التصديرية، وقد يؤثر سلبًا على أداء الصادرات، لا نقول إنها ستتحول إلى أداء سلبي، بل سيقلل من قيمة وحجم الصادرات السلعية والخدمية.
لنا أن نتخيل العائد على النشاط الاقتصادي أيًا كان مصدره (زراعي، صناعي، خدمي) يدر عائدًا يغطي نسبة 26% كربح صاف بعد تغطية التكاليف بدون تكلفة التمويل، بحيث تصرف نسبة 16.5% تكلفة التمويل، ويقتنع المستثمر بنسبة 10% على نشاطه.
وحسب مبدأ الاقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز الخاص بالكفاية الحدية لرأس المال، فإن أي نسبة ربح تقل عن 16.5% في الاقتصاد التركي - بفرض ثبات العوامل الأخرى- ستكون نتيجتها خسارة المشروع، وبالتالي الانسحاب من السوق.
فلا ينتظر مثلًا أن تظل المؤسسات الخدمية وعلى رأسها النشاط السياحي في تقديم خدماته بنفس الأسعار السابقة قبل رفع الفائدة، حيث إن السلع والخدمات التي تقدمها السياحة جزء من الاقتصاد، والذي يتحمل تكاليف ارتفاع التمويل.
وما لم تواكب سياسة رفع سعر الفائدة في الأجلين المتوسط والطويل أدوات أخرى تخفف عن مقدمي السلع والخدمات ما يدفعهم للاستمرار في نشاطهم، من خلال خفض الضرائب أو الرسوم الحكومية أو التأمينات على العمال، سيكون الأثر المتوقع هو تراجع معدلات الإنتاج، ووجود ارتفاع في معدلات البطالة، والدخول في حالة ركود.
لكن التوقعات تشير إلى أن ما يتعرض له الاقتصاد التركي بشأن اضطراب سوق الصرف، سيعود إلى أدائه الطبيعي عقب انتهاء الانتخابات في 24 يونيو 2018، وسيكون هناك آثار إيجابية لتعافي الليرة في ظل سيناريو فوز أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وفي هذه الأجواء سيكون بمقدور البنك المركزي اتخاذ خطوات متمهلة في النزول بسعر الفائدة ليكون عند 13.5% أو أقل، بعد أن يطمئن لانتهاء المضاربات على العملة، وأن سعر الصرف يعبر عن أداء حقيقي للعرض والطلب.
المخرج الملائم
ما شهده الاقتصاد التركي من مشكلة طارئة، هو أمر طبيعي في ظل اقتصاد يتبع أدوات النظام الرأسمالي، يمثل سعر الفائدة فيه ركنا ركينا، لذلك وجدنا الاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة (أميركا وغالبية الدول الأوروبية) حريصة على نسب متواضعة للفائدة، فهي في أميركا على أحسن التقديرات 2.5%، وفي نفس الوقت لا يتجاوز التضخم 1%، وهي نسب يصعب تحقيقها في الدول النامية، بل وفي الدول الصاعدة كذلك.
لكن المدرسة الرأسمالية ديناميكية حتى على الصعيد النظري، فالاقتصادي كينز وخلال أزمة الكساد الكبير 1929 طالب بأن يكون سعر الفائدة صفرا، لكي يشجع المستثمرين على الاقتراض وتمويل المشروعات، وخفض تكاليف الإنتاج، مما سيترتب عليه ممارسة النشاط الاقتصادي، وتوظيف يد عاملة، وحصول هذه العمالة على دخول تساعد على زيادة استهلاكهم، وبالتالي ينتقل الاقتصاد من حالة الركود إلى حالة الرواج تدريجيًا.
ويذهب أصحاب مدرسة الاقتصاد الإسلامي إلى أن النظر إلى رأس المال على أنه حبيس سعر الفائدة خطأ اقتصادي، لأنه يخرجه عن دوره الأصيل وهو المخاطرة، وهذه المخاطرة تعمل في إطار نتيجة محسومة، وهي الربح والخسارة.
وفي ظل الدراسات الاقتصادية الحديثة أصبحت المخاطر مجالًا يتحسب له وتدرس آثاره بعناية عند كل قرار يتعلق بالاستثمار.
لذلك من المناسب أن ينتقل الاقتصاد التركي، الذي يشهد نموًا مضطرًا، وقاعدة إنتاجية صلبة، إلى رحابة المشاركة، والبعد عن مخاطر سعر الفائدة، ولا نعني بأن يكون ذلك وفق قرار إدري، لكن وفق خطة تدريجية تعمل على زيادة المساحة التي تشغلها المصارف الإسلامية، وغيرها من مؤسسات التمويل القائمة على المشاركة.
المدرسة التركية
مشكلة تركيا مع سعر الفائدة، أن قطاع الخدمات المصرفية، يعتمد في جزء كبير منه على الاقتراض من الخارج، أو وجود مستثمرين أجانب، وكلتا الصورتين، تعمل وفق آلية سعر الفائدة، ويتطلب الأمر تقوية رأس المال الوطني في تمويل الجهاز المصرفي، فقد بلغت حصة المصارف من تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتركيا 2.7 مليار دولار و 1.2 مليار دولار على التوالي في عامي 2015 و2016.
ومطلوب كذلك زيادة نسبة المدخرات المحلية التي تمثل حسب بيانات قاعدة البنك الدولي 24% من الناتج المحلي الإجمالي في 2016.
تركيا وعبر آلية مشروعات (B .O.T) استطاعت أن تخرج إلى حد ما عن دائرة آلية الديون لتمويل جزء كبير من مشروعاتها الكبرى، مثل المطار المنتظر افتتاحه في 2019 وهو من أكبر مطارات العالم، وكذلك تمويل العديد من الجسور المعلقة، وإن كان الثمن هو خروج عائد هذه المشروعات كربح للشركات الممولة إلى خارج تركيا، لكن تدفقات الاستثمارات الأجنبية سنويًا وكذلك عوائد السياحة توجد نوعا من التوازن مع عملية خروج أرباح مشروعات الشركات الأجنبية بتركيا.
وبقى أن نشير إلى أن تبني أردوغان لمبدأ خفض سعر الفائدة لدفع الاستثمار، تم توظيفه بشكل سلبي من قبل معارضيه والمضاربين بالحرب على الليرة، فمطالب الرئيس التركي مشروعة، ولكنها السياسة التي يمكن لممارسيها أن يقلبوا الحق باطلًا، ولذا على الجميع الحذر.