انطلاق الأمواج البشرية التي تقود الحراك الشعبي في كل شوارع المدن الجزائرية، جاء جانب منه نتيجة نهب المال العام دون رادع أو مانع، لأنّه من نصيب كل المواطنين دون استثناء، ويمكن للسلطات الجزائرية إحكام قبضتها الآن على الفاسدين والمتطاولين على المال العام، قبل أن يصبح استرجاع الأموال المنهوبة ضرباً من المحال.
ولنا في الثورات العربية خير مثال على ذلك، فكل الدول التي اجتاحها الربيع قبل سنوات لم تتمكَّن لحدّ الآن من استرجاع ولو جزء بسيط من الأموال المنهوبة والمُهرَّبة إلى الخارج، لذلك يجب الحجز على أموال الفاسدين في الجزائر الآن وليس بعد فقدان أو تلف كل الأدلّة، فالبرهان الوحيد الذي يمكن أن تقدّمه الحكومة الحالية كدليل على مساندتها للشعب، هو إرجاع الأموال المنهوبة إلى الخزينة العمومية.
مسلسل نهب الأموال
لم يخف على أحد خبر اعتقال ومنع سفر سياسيين ورجال أعمال بارزين ومقرّبين من بوتفليقة، وأبرزهم شقيقه سعيد ورئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى وكذا مديرو الشركات العمومية الكبرى، لكن ما الذي يثبت للمواطن مدى جدية التحقيقات؟
كان من الأجدر أن يُرفق هذا الإجراء بقرار حجز ممتلكات كل المشتبه بهم، وخصوصاً أولئك الذين أخذوا قروضاً هائلة بدون ضمانات كافية ودون سدادها، وضخَّموا فواتير الاستيراد ورست عليهم المناقصات في المشاريع الاستثمارية الكبرى، وحصلوا على امتيازات ضريبية بضرب القانون عرض الحائط؛ وشهران ونصف من الحراك مدة كافية جدّاً لتهريب كمّ هائل من الأموال، وإهدار المزيد من الوقت لن يصبّ إلّا في مصلحة الفاسدين وسيمكّنهم من نهب ما تبقَّى في الخزينة العمومية.
ورغم انعدام البيانات حول مقدار الأموال المنهوبة من الجزائر، في ظلّ غياب رقيب أو حسيب خلال الولايات الأربع لبوتفليقة، لكن المبالغ التي خُصّصت لكل ميزانية خلال تلك الفترة واحتياطي الصرف والمبالغ المطبوعة تحت مظلة التمويل غير التقليدي، يمكن أن تعطينا صورة حقيقية لحجم المال المنهوب والمختلس من خزينة الدولة، والمحاولات البائسة لطمس هذه الحقائق والاكتفاء بمجرَّد الاعتقال أو إجراء المنع من السفر لم تعد تجدي نفعاً، فقد بلغ الاعتداء على المال العام ذروته خلال فترة حكم بوتفليقة، نتيجة لتمكُّن مافيا السياسة والمال من بسط هيمنتها على أجهزة الدولة ودواليب السلطة، فتلك المافيا لم تكتفِ بتحويل الجزائر إلى ملكية إقطاعية لها، بل رهنت مستقبل البلاد والأجيال القادمة.
لمَ لا تتحلَّى "سوناطراك" بالشفافية؟
ما دامت شركة المحروقات الحكومية "سوناطراك" هي البقرة الحلوب، التي توفّر أكثر من 90 بالمائة من مداخيل الجزائر، إذاً لمَ لم يتمّ إلزامها بالإفصاح العلني عن كل إيراداتها المالية ونفقاتها بالسنتيم؟
بفضل الفساد وسياسة التعتيم أصبحت الشركة الحكومية بمثابة دولة داخل الدولة، حتى الذين ارتدوا عباءة مُمثّلي الشعب في البرلمان لم يكلِّفوا أنفسهم عناء مناقشة ميزانية هذه الشركة في العلن. ورغم كل فضائح الفساد التي طاولت الشركة وجرّت العديد من المسؤولين إلى ردهات المحاكم، إلا أنّنا لم نلمس أيّ إجراء أو قرار حكومي يجبر مسؤولي الشركة على إعلان ميزانيتها، وكيف لبارونات الفساد أن يرتابوا أو يُصابوا بالصدمة، والتقارير الوطنية تؤكِّد عدم تأثير تلك الفضائح على نشاط القطاع النفطي في الجزائر، وكأنّ الأهمّ أن يستمرّ هذا القطاع في تعبئة جيوب الفاسدين.
والأدهى والأمرّ أنّ هذه الشركة مُحصَّنة من لدغات التقارير الدولية، لأنّ غياب ميزانيتها يجعلها بعيدة تماماً عن مرمى مؤشري شفافية الموازنة والميزانية المفتوحة، وكل ذلك يسمح لفضائح الفساد في قطاع الطاقة الحيوي أن تمرّ مرور الكرام، حتى فضائح فساد تلك الشركة أمام الرأي العام الوطني والدولي فجَّرها القضاء الايطالي، أمّا السلطات الجزائرية فكالعادة دائماً آخر من يعلم عندما يتعلق الأمر بفضائح الفساد من العيار الثقيل، وهذا ما يؤكِّد لنا أنّ سيل الفساد يسري بلا سدّ أو حاجز، والأجدر بهذه الحكومة الحالية، إن صحَّ قولها بتحقيق التغيير، أن تضع شركة سوناطراك نصب عينيها وتفعل ما بوسعها لقطع رؤوس الفاسدين فيها.
دول الربيع واسترداد الأموال؟
أفادت تقارير دولية مختلفة حول تهريب الأموال المنهوبة من دول الربيع العربي، بأنّ مصر فقدت ما يفوق 132 مليار دولار منذ يناير 2011، وبلغ نزف الأموال من سورية ما قيمته 56 مليار دولار، وقُدِّرت الأموال المنهوبة من تونس والمُهرَّبة خارجها بما يفوق 50 مليار دولار، وبلغت الأموال المختلسة من مال الشعب اليمني المودعة في بنوك خارجية ما مقداره 22 مليار دولار، والكارثة في ليبيا التي فقدت ما يفوق 140 مليار دولار، وهذا الرقم ما زال في صعود مستمرّ.
وقد طالبت كل الحكومات الجديدة في دول الربيع، الدول العربية والأوروبية بمساعدتها في استرداد تلك الأموال، لكن لا حياة لمن تنادي، فبالرغم من وضوح وإلزام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لكل الدول التي وقَّعتها بإرجاع الأموال المُهرَّبة إلى البلد المعني، إلا أنّ العديد من الدول ترفض أو تماطل في إرجاع تلك الأموال المنهوبة، علماً أنّ هذه الخطوة ستحلّ العديد من المشاكل الاقتصادية لدول الربيع.
إذاً هل من المعقول أن تنتظر دول الربيع مساعدة الدول الغربية في إعادة أموالها المنهوبة، علماً أنّ الدول العربية نفسها، المفروض أنّها شقيقة في العروبة والإسلام، امتنعت عن إرجاع الأموال التي كدَّسها المسؤولون السابقون في بنوكها، فمثلاً يعتبر كل من الأردن، لبنان، الإمارات والبحرين ملاذاً آمناً وحاضنة للأموال المسروقة من شعوب الربيع العربي.
يمكن القول بأنّ السلطات الجزائرية يجب أن تأخذ عبرة من دول الربيع العربي، في قضية استرداد الأموال المنهوبة، وتبذل قصار جهودها لحصار الفاسدين والحجز على ممتلكاتهم على الأقل في الجزائر، والحرص على إرجاع كل ما اختلسوه إلى الخزينة العمومية، كما ينبغي اتخاذ إجراءات استثنائية لضمان السرعة والفعالية في استرجاع تلك الأموال، وعدم الاكتفاء بالإجراءات التقليدية التي يطول من خلالها أمد تلك القضايا الحسّاسة في أروقة المحاكم، لأنّ ترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي سيكون كفيلاً بانتقال الأموال المنهوبة من الشعب الجزائري إلى الضفة الأخرى الشمالية من البحر المتوسط، وحينها لن تنفع خطابات محاربة الفساد الرنَّانة التي ستُلقى على مسمع الشعب.