"مستعدّون لكلّ شيء. الجميع يتوقّع الموت. كل واحد منا يعلم ما عليه القيام به في حال كتبت له الحياة مرة أخرى. ندفن شهداءنا في أي مكان متاح. ليس مهماً الوصول إلى المقبرة بل الإسراع في دفنهم. نحن مستعدّون للموت". هذا ما قله حسين العبدالله لـ "العربي الجديد"، قبل انطلاق العمليات العسكرية للقوات العراقية في الفلوجة (60 كيلومتراً شمال غرب العاصمة العراقية بغداد) فجر أول من أمس، بهدف استعادة السيطرة عليها من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وكان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد أعلن عن انطلاق العمليات العسكرية لـ "تحرير مدينة الفلوجة" من سيطرة داعش، بمشاركة الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي (مليشيات مسلحة) والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب والحشد العشائري (متطوعون من عشائر المدينة) في محافظة الأنبار.
المدينة التي يقطنها نحو مائة ألف مواطن، يسيطر عليها داعش منذ نحو عامين. وقبل أكثر من ستة أشهر، فرضت القوات العسكرية العراقية والمليشيات حصاراً خانقاً عليها، ومنعت دخول المواد الغذائية والأدوية إلى المدينة. وبسبب الحصار، مات عدد من السكان، غالبيتهم من الأطفال وكبار السن والمرضى، في ظل عدم توفر الأدوية والعلاجات.
لم يغادر العبدالله الفلوجة بعد سيطرة داعش، حاله حال الكثير من سكانها. ويقول نزار عايش الذي غادر المدينة متسلّلاً عبر بساتينها باتجاه بغداد قبل نحو عام، إن قرار البعض بعدم المغادرة يرتبط برعايتهم مسنين، أو بسبب الخوف على أطفالهم ونسائهم، خصوصاً أن الفارين يضطرون للسير في البساتين والأحراج، وقد يتعرضون للقتل على أيدي عناصر داعش الذين يمنعون السكان من مغادرة المدينة. كذلك، فضّل آخرون البقاء بعد كل ما تعرض له نازحو الفلوجة والأنبار ومناطق أخرى في بغداد من قبل القوات الأمنية والمليشيات، وإبقائهم مع عائلاتهم في العراء.
هكذا صمد أهالي الفلوجة خلال الأشهر الماضية. يقول العميد السابق في الجيش العراقي ثامر العبيدي إن "أهالي الفلوجة يرفضون الانهزام". ويوضح أنهم "صمدوا أمام أعتى قوى الأرض عام 2004، خلال معركتي الفلوجة الأولى والثانية. وعلى الرغم من قساوة ما فعله الأميركيون بهم، احتملوا كل ما عانوه في ظل الخسائر الكبيرة في الأرواح وتدمير مدينتهم. رفضوا إحناء رؤوسهم للمحتل".
يقول أهالي الفلوجة إنهم واجهوا حربين شرستين في مدينتهم، هما معركة الفلوجة الأولى ومعركة الفلوجة الثانية، وتعلموا منهما العيش في أصعب الظروف. وتعد معركة الفلوجة الثانية (نوفمبر/تشرين الأول عام 2004)، معركة انتقام القوات الأميركية لخسارتها في معركة الفلوجة الأولى، والتي نشبت في إبريل/نيسان عام 2004. في ذلك الوقت، ضاعفت القوات الأميركية تعزيزاتها مستعينة بأكثر من 15 ألف جندي، في مقابل نحو ألف مقاتل.
في هذه المعركة، استخدمت القوات الأميركية أسلحة محرّمة، منها الفوسفور وغيرها. وأعلنت القوات الأميركية مقتل 1600مقاوم واعتقال 1050 شخصاً من أهالي الفلوجة. وكان السكان يدفنون قتلاهم في الملاعب الرياضية وحدائق المنازل، بسبب صعوبة الوصول إلى المقابر الرسمية.
العبدالله دفن شقيقه الأكبر في حديقة منزل والده، وقد قتل نتيجة القصف الجوي الأميركي في معركة الفلوجة الثانية. في ذلك الوقت كان أعزب، ولا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين. اليوم، بات أكثر قدرة على التعامل مع الظروف الصعبة، حتى أنه مستعد لدفن أي من طفليه الصغيرين، وقد سمى أكبرهما أحمد على اسم شقيقه. يضيف: "كل واحد منا يعرف ما عليه القيام به. إذا مت قبل زوجتي تعرف ما يتوجب عليها فعله، والعكس صحيح. جيراني يعرفون واجباتهم أيضاً".
في اليوم الثاني لمعركة الفلوجة، لم يظهر العبدالله على أي من وسائل التواصل الاجتماعي، في وقت أوضح عايش أن الاتصالات صعبة، وقد قطع التيار الكهربائي عن الفلوجة، ما منعه من معرفة أخبار أقاربه وأصدقائه وجيرانه الذين تركهم بعد نزوحه من المدينة.
يشير عايش إلى أنه استطاع الحصول على بعض المعلومات المتعلقة بالتدابير الأمنية التي اتخذها سكان الفلوجة لحماية أنفسهم من القصف، قبل وقت طويل من انطلاق المعركة. يقول: "تعاونوا في حفر خنادق وبناء ملاجئ تقيهم القصف. لدى رجال الفلوجة خبرة جيدة في بناء ملاجئ مناسبة، بالإضافة إلى مداواة الجروح من خلال مواد بسيطة وعلاجات شعبية". ويلفت إلى أنه "في الآونة الأخيرة، اهتم الأهالي بجمع الأعشاب لاستخدامها في العلاجات بعد الحصار الذي فرض على المدينة، ومنع وصول أي دواء إليها".
من جهة أخرى، يقول العبيدي إن "المعركة ستطول ولن تنتهي بسرعة، وقد ينسحب عناصر داعش بعد مرور بعض الوقت، ليعود أهالي المدينة إلى إحصاء قتلاهم مجدداً، ثم إعادة بناء مدينتهم من جديد كما فعلوا عقب انتهاء أشرس معركة خاضوها خلال الوجود الأميركي في منطقتهم".