وسط المحلات القديمة في سوق الزاوية في قلب مدينة غزة، على مقربة من بوابة المسجد العمري، أقدم مساجد قطاع غزة، يحاول الساعاتي فايق محمود نصر الحفاظ على مهنته التي تكاد تندثر بشكلها الذي ورثه عن والده. يبلغ فايق نصر الرابعة والستين من عمره اليوم وما زال متمسّكاً بما تعلّمه على يد والده قبل عقود طويلة، علماً أنّ الأخير كان يملك محلاً لتصليح الساعات في وسط مدينة يافا الفلسطينية قبل أن يُهجّر منها إثر نكبة 1948. والوالد محمود (مواليد عام 1918) كان قد تعلّم مهنته في بداية ثلاثينيات القرن الماضي على يد ساعاتي روسي الأصل كان يتنقل في مدن فلسطين لبيع الساعات من الماركات العالمية، وقد علّم أشقاءه جميعاً تلك المهنة. وبعد تهجيرهم من يافا، راحوا يمتهنونها في غزة، لكنّهم سافروا إلى السعودية وأكملوا عملهم في المهنة نفسها وأورثوها لأبنائهم.
منذ عام 1974، استقرّ فايق في سوق الزاوية الذي انتقل إليه والده في عام 1957، بعدما كان يعمل في منطقة الرمال في غزة. وهو كان قد أصرّ على الاحتفاظ بمهنة والده بعدما أنهى تعليمه الثانوي بمعدّل "جيّد" وحصل على شهادة باللغة الإنكليزية من كلية غزة للتدريب المهني التابعة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في اللغة الإنجليزية. ويخبر "العربي الجديد": "كنت أقصد والدي بعد انتهاء دوام مدرستي لأشاهده وهو يصلح الساعات. كانت تلك المهنة الدقيقة تبهرني وتثيرني بتفاصيلها الصغيرة. لذا أصررت على العمل فيها. وكانت مهنة مربحة، وعرفت في تلك الفترة عصرها الذهبي". يضيف فايق: "كنت أعمل نحو 12 ساعة متواصلة في محلّنا في سوق الزاوية وأصلح أكثر من 10 ساعات تتنوّع ما بين ساعات يد وساعات جيب تُعلّق بسلاسل من الحديد أو النحاس".
وكان الوالد محمود في ذلك الحين الساعاتي الوحيد في سوق الزاوية، بحسب ما يؤكد فايق، لافتاً إلى أنّه "كان يتميّز بتعامله مع كل أنواع الساعات". وقد تمكّن فايق بدوره من ذلك في سبعينيات القرن الماضي عندما بدأ يعمل في المحل نفسه الذي كان يملكه والده، ويذكر أنّ أشهر أنواع الساعات العالمية حينها - وهي ما زالت حتى اليوم - "جوفيال" و"أوميغا" و"رادو" و"روليكس" و"باتيك فيليب"، من دون أن ينسى الإشارة إلى ساعات الحائط القديمة الألمانية والسويسرية واليابانية.
ما زال فايق يعتمد في عمله اليوم على الأدوات التقليدية القديمة، "فأنا أشعر بأنّها الأدوات التي قامت على أساسها مهنة الساعاتي، بالتالي فإنّ الأصول تقتضي استخدامها". ومن تلك الأدوات يعدّد "الملقط والمفكات الدقيقة ذات الأحجام المختلفة والموس الحاد وإناء الزيت والفراشي والنافخة والتختة، وهي قطعة من الحديد تُدَقّ براغي الساعة عليها، إلى جانب قطاعة وعدسة مكبّرة".
ويشير فايق، الذي كان معظم زبائنه من المدرّسين والتلاميذ، إلى أنّ "مدينة غزة كانت تضمّ النسبة الأكبر من اللاجئين الذين كانوا يقصدون المعاهد التعليمية والمدارس، وبالنسبة إلى هؤلاء فإنّ الوقت كان ثميناً والساعة شيئاً مقدساً وأغلى الهدايا حينها. لذا كان المثقفون يستخدمون الساعات وكذلك الأثرياء". لكنّه يقول إنّ "الناس لم يعودوا يقصدون الساعاتي كثيراً، خصوصاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، في ظل الأزمة الاقتصادية، وكذلك مع اعتماد البعض على ساعات اليد الإلكترونية"، مضيفاً أنّ "مهنتي لم تكن الوحيدة التي تأثرت من جرّاء الواقع الاقتصادي السيّئ، كذلك الأمر بالنسبة إلى الخيّاط والنجّار والحدّاد". ويؤكد "لكنّني رجل ستيني وروحي وحياتي بين الساعات ونشاطي الدائم يتجدّد من خلالها. وأنا أحبّ كذلك الرائحة المنبثقة من السوق والاستيقاظ باكراً والعمل كما كان في السبعينيات".
ما زال فايق يحتفظ بزبائن منذ أكثر من 40 عاماً، "وهم بمعظمهم رجال مسنّون يتمسّكون بساعاتهم الغالية على قلوبهم والتي يتخطّى عمر بعضها المائة عام. إلى جانب هؤلاء، ثمّة زبائن آخرون يحملون ساعات غالية الثمن ويثقون في قدرتي على إصلاحها". بالنسبة إليه فإنّ هؤلاء "يقدّرون أهمية الساعات وكذلك أهمية مهنتي"، مؤكداً أنّ "مهنتي من أصعب المهن القديمة، فهي تتطلب تركيزاً كبيراً ودقّة وصبراً في العمل، بالإضافة إلى الاطلاع على أنواع الساعات وأشكالها وتقنيّة عملها الداخلي"، لكنّه يأسف لأنّه لم يتمكّن من توريثها لأبنائه.