ما زالت موجات اللجوء تتوالى، مع توافد المهاجرين إلى المجر عبر صربيا. ويجتاز هؤلاء العاصمة المجرية ليبلغوا الأراضي النمساوية باتجاه ألمانيا. وعلى الرغم من أن السلطات المجرية سمحت للمئات السبت الماضي بالسفر نحو النمسا بالقطارات وسط فرحة بعد إنهاك، إلا أن مأساوية مشاهد اللجوء ما زالت تُسجّل في محطة بودابست المركزية. وتحاول "العربي الجديد" استطلاع أوضاع هؤلاء ومرافقتهم. من بينهم، سوريون وافدون من مناطق لم يسمع بها كثيرون، من أمثال هذه المرأة الآتية من الكسوة في ريف دمشق وذلك العجوز المنهك بعدما قطع مسافات طويلة من الجديدة (ريف دمشق أيضاً). والمشهد ليس سورياً حصراً، بل ثمّة خليط جنسيات تتنوّع ما بين عراقيين وأفغان وإيرانيين وهنود وسريلانكيين. وغالباً، عندما تسأل هؤلاء عن أوطانهم، يجيبون سريعاً أنهم "من سورية".
على الرغم من حادثة مقتل العشرات اختناقاً في شاحنة في النمسا بعد انطلاقها من المجر قبل أكثر من عشرة أيام، إلا أن الآلاف يستمرون بالتوافد، وسط "مزاجية" السلطات المجرية لجهة منع هؤلاء أو السماح لهم بعبور الحدود المجرية. وبالتزامن، يزدهر سوق في بودابست، ليس إلا سوق تهريب البشر. واللافت أن السلطات تغض الطرف عنه.
تبدأ الحكاية في الساحة الرئيسة لمحطة بودابست. هناك، مجموعات من المهاجرين لا ترغب في انتظار دورها لاستقلال القطار، أو لا ترغب في المجازفة في حين قد تغيّر السلطات المجرية رأيها وتعلّق الرحلات من جديد. ويستفيد البعض من هذه الفرص، فيتقدّم من تلك المجموعات ويسأل: "هل تحتاجون مساعدة؟".
اقرأ أيضاً: موسم الهجرة.. سوريّون يعبرون تركيا إلى أوروبا
ويتحدّث عبد الرحمن، وهو من النيرب (شمال سورية)، عن "اقتناص الفرصة" وكذلك تفعل ابتسام من المزّة في دمشق. ويخبران كيف "جاء ذلك الشاب اللبناني وعرض مساعدته. كان يحمل عبوات مياه لنا وحذّرنا من عدم المخاطرة أسوة بالآخرين والسفر سيراً على الأقدام أو بواسطة القطار. وسرعان ما أضاف: يبدو أنكم لستم حمل بهدلة. سوف أساعدكم لتصلوا أينما تريدون بطريقة مريحة".
ويشير عبد الرحمن إلى أنه ما زال ينتظر تحقيق تلك الوعود، منذ ثلاثة أيام. ويستاء إذ إن قطارين انطلقا السبت نحو الحدود النمساوية، بينما هو ما زال "حبيس هذا الفندق، وأدفع بدل الليلة الواحدة 30 يورو (34 دولاراً أميركياً) للاختباء فيه، ريثما نهرَّب كما قال لنا ذلك الشخص الذي سلّمنا إلى آخرين".
إنها الساعة الواحدة من بعد منتصف ليل السبت -الأحد. تتعالى أصوات نزلاء "فندق التهريب"، وتختلط اللغات ببعضها. تصرخ ابتسام بغضب في وجه مهرّب طلب منها ومن نساء أخريات نزع حجابهنّ واستبدال ملابسهنّ بأخرى لا تثير ريبة الشرطة. وتهدّد ابتسام بفضح ما يجري من "كذب ومن وعود تفرغ الجيوب وتنهكنا نفسياً". من ثم، تجرّ حقيبتها وتتبعها الأخريات نحو محطة القطارات. وتقول: "اصطادونا وأوقعوا بنا في فخ الطريقة المريحة". هي اكتشفت أن السلطات سمحت للمهاجرين بركوب القطارات السبت باتجاه النمسا، في حين يطلب المهرّب من كلّ شخص 500 يورو (561 دولاراً)، علماً أنه لا يساعدهم في اجتياز الحدود، بل يوصلهم فقط إلى مسافة تبعد كيلومترات عن الحدود النمساوية.
هنا، يتدخّل وسيط سوري يعمل مع مهرّب سريلانكي، ليخفّف من التوتر الحاصل. ويخبر عامل الاستقبال بريبة، أن في الصباح الباكر، تحضر سيارات دفع رباعي تحمل لوحات ألمانية وسويدية ومجرية وكلها بنوافذ مظلّلة، وتنطلق من الفناء الخلفي للفندق المتواضع الذي يتشارك ملكيته مجريّ وآخر من جنسية أوروبية إنما من أصول آسيوية.
ويسأل عبد الرحمن: "هل انطلق فعلاً القطار أمس السبت؟" قبل أن يتحسّر: "ليتني سمعت كلام أختي في السويد وأخذت القطار مثل الآخرين. خفت من عدم السماح له بالانطلاق، وأنا اليوم أوشك على الإفلاس، في حين يحذّرونني من الخروج من الفندق. ويقولون: إن أمسكت بك الشرطة المجرية، سوف تصطحبك إلى معسكر لجوء وتأخذ بصمتك". ويبدو عبد الرحمن بالفعل معزولاً عن العالم الخارجي ومرعوباً من كيفيّة إيجاد مخرج، "فهؤلاء المهرّبون يلعبون لعبة الشرطي السيئ والشرطي الصالح، في طريقة تعاملهم مع من يقع في شباكهم".
اقرأ أيضاً: لاجئون سوريّون ينتظرون التفاتة في عراء باريس
في بهو الفندق المجري الصغير، تصلك نقاشات باللغة العربية ما بين وسيط تهريب وسائق سيارة تهريب. يقول المهرّب محمد: "يوم أمس (السبت الماضي) أوقف النمساويون بعض السيارات… القضية فيها سجن وغرامات كبيرة". ويشير إلى أنه هرّب أشخاصاً صوّروه وهو نائم، "وحين وصل أحدهم إلى السويد، وشى بي وأبرز لهم صورتي. القصة خطرة جداً، لكن الذين يشغلوننا يقولون لنا لا تقلقوا من شيء في المجر، المهم أمّنوا أنفسكم في الطريق نحو ألمانيا".
والتشدد على الحدود النمساوية والألمانية إزاء السيارات، هو ما يقلق هؤلاء المهربين منذ أكثر من عشرة أيام. ويقرّ محمد: "توقّف سوقنا منذ حادثة الشاحنة. لكن لا بدّ أن نعود إلى سابق عهدنا. ننتظر تجمّع العدد المطلوب، لننطلق بسياراتنا ونتواصل بواسطة هواتف عمومية داخل المجر". يضيف: "ما يزعج هؤلاء الراغبين بالعبور بطريقة مريحة إلى ألمانيا أو السويد مروراً بالدنمارك، هو الانتظار ريثما تمرّ سيارات تفيدنا بأن التفتيش قد خُفّف".
في شارع إيرشبيت الرئيسي وعلى مقربة من ذلك الفندق، يتجمع عند مطعم "إسطنبول" سوريون، أكثرهم من الأكراد. ويتناقشون أمام سيارات تحمل لوحات ألمانية، عمن سوف يرافقهم في خروجهم مساءً إلى ألمانيا.
هناك، تلتقي "العربي الجديد" بناءً على موعد مسبق، المهندس محمد الناصر وهو من شمال سورية، يقيم في المجر منذ عامين بعدما وصلها من اليونان وحصل على اللجوء. يقول: "نحن أمام حالة منظمة للتهريب وليست عشوائية. يُغضّ الطرف عنها لأسباب عدة، ولعلّ تلك الاقتصادية هي الأساس. المهرّبون ينشرون صياديهم بين المهاجرين في محطة كليتي المركزية لسكك الحديد وحولها. يعرض هؤلاء أنفسهم كخبراء في كيفية بلوغ الهدف. وهؤلاء الصيادون الصغار لا يقصدون بالضرورة التجمعات في المحطة، بل يستهدفون أي عربي يصادفونه. هم يذكّرونني بالصغار في سوق الحميدية أو سوق الحسين في القاهرة". يضيف: "في مرّة اقتربوا مني وكنت مع صديقين من تونس وفلسطين نشرب القهوة. سألونا: أي مساعدة شباب؟ هل تريدون السفر؟ رحنا ننظر إلى بعضنا بعضاً. نحن الثلاثة نقيم بين المجر وإيطاليا. هل يبدو علينا أننا نبحث عن سفر أكثر من سفرنا هذا؟".
في الفندق نفسه، يلتقي مراسل "العربي الجديد" شخصاً عرض عليه في المحطّة تهريبه إلى ألمانيا. وينتظر النزلاء الإيرانيون والسوريون، مواعيد التهريب. في هذا الصباح (الأحد الماضي)، يحسم عبد الرحمن أمره ويطلب من المهرّب استرداد حقيبته. يقول: "سوف أتوجّه إلى المحطة. أوشك على الإفلاس ولم أعد أحتمل الانتظار والوعود والتلاعب".
نفاذ صبر عبد الرحمن لا يعني أن غيره لا يحتمل الانتظار الطويل. ويكشف بعض "منتظري الفرج" أنه "كلما كنت سخياً بمالك، كلما هرع هؤلاء لخدمتك وتأمين طرق تهريب غير اعتيادية".
فجر الأحد، وسط انشغال الشارع حيث يقع الفندق بملهى ليلي يرتاده المجريون في نهاية الأسبوع، يتحضر المهرّبون في حين تعلو النقاشات حول مسار التهريب، في حين يعبّر البعض عن سخط بسبب ما صرفوه من أموال خلال أيام الانتظار.
ومن بين الذين يستعدّون للانطلاق، عائلة سورية تقيم في غرفة أسرّتها فوق بعضها بعضاً. تسألهم عما يدفعهم إلى الانتظار بينما اجتازت القطارات الحدود النمساوية وبلغ الآلاف ألمانيا (ميونخ)، يجيبون: "لم نكن نريد كل هذه البهدلة في المحطة. اعتقدنا بأن المسألة ستكون أسهل، وإذ بنا ننتظر ونصرف ليستفيد الجميع وعلى رأسهم أصحاب هذا الفندق الذين يبدو أنهم شركاء في عمليات التهريب. لكننا وُعِدنا بأن ننطلق فجر غدٍ في هذه السيارة". ويشيرون إلى مركبة من نوع رانج روفر تحمل لوحة تسجيل مجرية، في حين يتحفّظون عن ذكر المنطقة التي حضروا منها وكم تكلّفوا من مال.
اقرأ أيضاً: أوروبا قدر اللاجئين.. رغماً عنهم