يتعرض الأطفال في مناطق الصراع لانتهاكات خطيرة تصل إلى حدّ القتل. لكنّ الصحة النفسية للناجين عادة ما لا تأخذ الأولوية، بالرغم من تأثيرها الطويل الأمد على الضحايا
يرسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في تقريره الأخير حول الأطفال والصراعات المسلحة، صورة مفزعة في ما يخص عدد الأطفال من القتلى والجرحى حول العالم، تحديداً في عدد من الدول العربية والإقليمية، بما فيها اليمن وسورية وفلسطين المحتلة وليبيا والعراق وأفغانستان. يغطي التقرير الصادر أخيراً فترة عام 2018 ويسجل 24 ألف انتهاك جسيم، بين قتل وجرح وتشويه، ضد الأطفال في حوالي عشرين بلداً، بالإضافة إلى تدمير المدارس والمستشفيات وتجنيد الأطفال والاغتصاب والعنف الجنسي. ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى بكثير، إذ إنّ هذه الأرقام هي التي تمكنت الأمم المتحدة من التأكد من صحتها. ويثير التقرير في كلّ عام ضجة إعلامية سرعان ما تخبو حتى العام التالي، ولعلّ واحداً من الأسئلة التي لا بد من طرحها هو عن الحيوات التي تغيب خلف تلك الأرقام وعن تأثير تلك الصراعات نفسياً على حياة الناجين من الأطفال خصوصاً ومجتمعاتهم عموماً.
وفي الوقت الذي يمكن فيه إحصاء الجروح الجسدية، فإنّ هناك جروحاً نفسية وتأثيرات يصعب قياسها بالأرقام المجردة. ولا يسلم منها حتى هؤلاء الذين تركوا بلادهم مهاجرين وطالبي لجوء، أو حتى الذين لم يعيشوا الحرب عن قرب، لكنّ لهم أقارب ومعارف في تلك الأوطان. وفي هذا السياق، تقول الباحثة والاختصاصية النفسية لميا خوري، لـ"العربي الجديد": "من خلال عملي مع عدد من العائلات المهاجرة بعضها جاء إلى الولايات المتحدة من سورية ودول أخرى، فإنّ الكثير من الأطفال يعانون مما يعرف باسم رضوض الصدمة. ويتجلى هذا في عدة أشكال، من بينها الكوابيس والاكتئابات وأمور أخرى". تضيف: "عند الحديث عن الأطفال وعائلاتهم ممن فروا من ويلات الحروب، هناك خطأ يرتكب يتعلق بوضعهم جميعاً في سلة واحدة والتعميم حول مجتمعاتهم أو حتى طرق تأثرهم بالحروب والنزاعات. وهنا لا بد من التذكير بأنّ كلّ طفل وعائلة، حتى لو كانوا من البلد نفسه، لهم خصوصيتهم وخلفيتهم الاجتماعية والثقافية والطبقية وغيرها. وهذا كلّه يلعب دوراً في العلاج وفي نوعية وكيفية تأقلمهم، ناهيك عن نوعية الاضطرابات والتحديات التي تواجههم".
تضيف خوري: "بالنسبة لهؤلاء الذين يتمكنون من النجاة ويخرجون من بلادهم وقد يكونون من القلائل (المحظوظين) الذين وصلوا إلى أوروبا أو أميركا، فإنّ لدى عدد منهم عقدة ذنب للنجاة. فقد يكونون تركوا أصدقاءهم وأقاربهم خلفهم. بالنسبة للأطفال، فإنّ التأثير قد يكون أكبر إذا فقدوا أحد الوالدين مثلاً، ناهيك عن السنوات التي تمرّ من دون الذهاب إلى مدارس أو تلقي العلاج الصحي الملائم".
يلعبون لعبة الحرب في سورية (عارف وتد/ فرانس برس) |
لكنّ تحديات أخرى تواجه هؤلاء الذين نزحوا، من ضمنها التكيف مع المكان الجديد. وإذا كان هذا المكان دولة أجنبية فيعني كذلك لغة جديدة ومحيطاً وقوانين ونظاماً مختلفاً. وقد تزيد جميعها من الضغط النفسي على الأهل والأطفال وتؤدي إلى مزيد من الانعزال أو التقوقع. تشير خوري إلى أنّ من الضروري، قبل البدء بعلاج نفسي طويل، عند التعامل مع عائلات خرجت من حروب أو نزاعات مسلحة، تأمين الاحتياجات الأساسية والمساعدة على التكيف في البلد الجديد. بل إنّ العلاج النفسي في الكثير من الأحيان يركز على تلك الأمور بدلاً من التركيز على الماضي والحديث عنه، لأن عدم تأمين الاحتياجات الأساسية، من بينها السكن والأكل، يعني عدم توفر الإمكانية والظروف لعلاج ما حدث بالماضي. ومن ضمن ما يجب القيام به في هذا السياق هو محاولة بناء الروتين وإعطاء الأشخاص القدرة على السيطرة على حياتهم ومحيطهم، فهذه واحدة من الأساسيات التي فقدوها مع بدء الحرب.
في سياق آخر، تفيد دراسة صادرة عن منظمة الصحة العالمية، عام 2015، حول الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي للسوريين المتضررين من الصراع المسلح، بأنّ "من ضمن المشاكل العاطفية والسلوكية/ الاجتماعية التي تواجه النازحين واللاجئين السورين: الحزن والأسى والخوف والإحباط والقلق والغضب واليأس. وتشمل المشاكل المعرفية: فقدان السيطرة والعجز والقلق والملل واليأس. ومن الأعراض الجسدية: التعب، ومشاكل النوم، وفقدان الشهية، والشكاوى الجسدية غير المفسرة طبياً. أما المشاكل الاجتماعية والسلوكية فعديدة، منها: الانسحاب والاستسلام والسلوك العدواني وصعوبة التعامل مع الآخرين مما يغدو شائعاً".
تشير خوري إلى أنّ من بين الأعراض المرتبطة بتلك المشاكل الصحية والتي لاحظتها لدى عدد من الأطفال الآتين من دول الصراعات هي الكوابيس والخوف وعودة ذكريات الماضي المتعلقة بالحرب أو أزمة ما (ارتجاعات) وغيرها. كما يولّد العنف عدداً من الصدمات سواء عاش الشخص ذلك العنف بشكل مباشر أو حتى بشكل غير مباشر عن طريق الصور ومقاطع الفيديو أو سمع عنه من أشخاص عايشوه وكانوا قريبين منه. وتأثير ذلك يختلف من شخص إلى آخر. لكن ما تؤكده الأبحاث أنّه إلى جانب التأثر سلباً هناك قدرة مرونة واستيعاب للرضوض. وهناك شريحة من الأفراد تؤثر عليها تلك الصدمات بشكل عميق إلى حدّ توليد ارتجاج في وضعهم النفسي ليكون لديهم أحد أشكال الشلل، إذ يعلقون في المشهد العنيف والضربة القوية لإنسانيتهم ويبقون في تلك اللحظة، كما أنّ هناك نوعاً من فقدان الثقة بالنفس وعدم الشعور بالأمان.
وعلى الرغم من تعرض الأطفال للعنف والاستغلال الجنسي أو الجسدي، وفقدان الأمان واضطرارهم للنزوح أكثر من مرة، فإنّهم يتحلون بقدر كبير من المرونة، وهو ما يميز البشر عموماً، والأطفال خصوصاً. هذه المرونة تبعث على الأمل في مشهد لا يوجد فيه كثير من الأمل، كما يؤكد الباحث والطبيب النفسي حسام بهلول: "عوامل المرونة أو الصمود تجري دراستها على نطاق واسع عند الأطفال الذين نجوا من عنف منزلي أو حروب أو كوارث طبيعية بمناطق مختلفة في العالم، وللأسف لم تدرس بشكل ممنهج في ما يخص الحرب السورية مثلاً. لكنّ الدراسات المأخوذة من مناطق تعرض الأشخاص فيها لصدمات تجعلنا نشعر بتفاؤل".
نشاطاتهم ليست لعمرهم في اليمن (عيسى أحمد/ فرانس برس) |
يضيف: "من الضروري الانتباه ليس فقط للتعرض للعنف المباشر بل لأمور تكون قساوتها وعنفها أكبر، وهي التغيير المباشر للبيئة وفقدان عناصر الحماية التي كان الأطفال معتادين عليها، ومن ضمنها مشاهدتهم عجز أهلهم عن حمايتهم، ولهذا الأمر تأثير كبير على الأطفال. لكنّ عناصر المرونة قائمة، خصوصاً إن جرى تأمين نوع من الاستقرار في حياتهم في الأماكن الجديدة التي انتقلوا إليها في مناطق النزوح أو اللجوء، ومن ضمنها إعادة ترتيب الروتين القديم من عادات وتقاليد، خصوصاً إن لم يفقدوا أحد الوالدين. وهذه الأمور تساعد إيجاباً في توليد حالة من المرونة، كما تساعد الأطفال في التأقلم جيداً، وتجاوز ما وقع لهم بنسبة معينة، وإن لم يكن هناك تجاوز كلّي".
عدّاد الضحايا مستمر
على الرغم من نشر عدد من الدراسات حول تأثير الحروب على المجتمعات المختلفة، من بينها سورية واليمن مثلاً، إلا أنّ أغلبها يقتصر على ردّ الفعل المباشر للصدمة والنزوح. ويصعب الآن الجزم حول التبعات والتأثير الكلي للحروب، تحديداً على الأطفال وعائلاتهم ومستقبل تلك الدول وحتى المنطقة، لأسباب عديدة، من ضمنها أنّ تلك الحروب مستمرة وعدد الضحايا يزداد كلّ يوم.