ها قد مرّت عدة أيام. لم يُسمع صوته منذ بدأ الشهر، مع أنه بالعادة يصرع رأس الجميع. ينادي الغارقين في فراشهم، منذ سنوات عديدة. كأن صوته اختفى فجأة. والحق أنه ليس صوتاً جذّاباً، لكن الناس اعتادت عليه مثلما تعتاد سماع أغنية هابطة. صوت القرع اختفى أيضاً. بالعادة، يغطي صوت الطبلة على صوته. العصا التي تسلخ جلدها توصل هذا الصوت إلى آخر شارع في المنطقة.
لطالما اعتبر أن ما يفعله خلال هذا الشهر هو مهنته الحقيقية. وهو الشهر الذي يعتمد على ما يجنيه خلاله كي يعينه بقية أيام السنة. ليست له مهنة أخرى معروفة. بالعادة يمكن رؤيته في المقهى يلعب ورق الشدّة بين أصدقائه الصعاليك. حتى مكان إقامته ليس واضحاً بالضبط. فمرّة يسكن في غرفة نصفها تحت مستوى الطريق الذي تسلكه السيارات، وتكاد تكون أقرب إلى مغارة منها إلى غرفة يمكن للآدميين أن يعيشوا فيها. وفي مرة أخرى يبحثون عنه فيجدونه في غرفة مخلّعة النوافذ والأبواب في مبنى عتيق هجره سكانه قبل أن يقرّر متموّل هدمه لبناء بناية جديدة مكانه. هكذا هو دائماً. لا يملك عنواناً معروفاً أو مهنة ثابتة. هو من أولئك الذين يعيشون كل يومٍ بيومه.
قبل سنوات اختلف المسحّراتيون على تقسيم الشوارع في بعض مناطق المدينة. يقولون إنهم ضربوا بعضهم البعض في تلك الليلة بدلاً من أن يضربوا على طبلتهم. كان هذا صراع الفقراء على الليرات القليلة التي يتقاضونها بدلاً عن هذه المهمة خلال شهر الصوم. تدخّلت المرجعيات الدينية يومها وقامت برسم حدود المناطق بينهم، بحيث لا يتعدّى واحدهم على منطقة الآخر. فخضعوا.
ويبدو أن هذه الخطوة لم تكن الوحيدة التي تؤكد أن "المهنة" باتت في اندثار. "الزعران" تكاثروا وصاروا يضايقون المسحّراتي. يرشقونه بالماء حيناً وبما وصلت إليه أيديهم في أحيان أخرى. المنبّهات الخلوية صارت بأيدي جميع الناس. لم يعد الجيل الجديد مهتماً.
يقولون إنه في العام الماضي دار في أيام العيد على الشقق التي يوقظها خلال رمضان كي ينال إكراميته منها. غير أن كثيرين لم يقدّروا له هذه المهمة، فمنهم من لم يدفع الإكرامية، ومنهم من لم يفتح الباب له، ومنهم من أهانه. فغضب وأقسم يميناً بأنه لن يكون مسحّراتياً بعد اليوم مهما ساءت به الحال. يقولون أيضاً إن أحداً لم يره مؤخراً وإنه ترك المنطقة إلى غير رجعة.
الأكيد أن صوت الطبلة توقّف عن القرع. وهذا صوت جميل آخر، على فظاظته، يترك فراغاً لن يتمكّن أحد من ملئه بعد اليوم.