بالكاد تجد تجاعيد في وجه حسين حلّال، فهو من الأشخاص الحريصين على الصحة. هذا تفصيل. لكن أن يكون ثمانينيّاً يساهم في تدريب بلديات لبنان، فهذا ليس تفصيلاً.
الحياة ما زالت أمامه. وهي كذلك لأنّه يحبّها، ويعرف أن يعيشها ويكون ما يريد فيها. والقول إنّه بلغ عامه الـ 82، يجب ألّا يكون صادماً. فالعمر، بالمعنى الدارج، يرفض الاقتراب منه. هو من الأشخاص الأوفياء لأعمارهم وعصرهم وحياتهم. وأكثر، هو من الأوفياء للناس. خلال ساعتين، يذكر كلّ تلك الأسماء، ليس لأنّهم كانوا معه في مرحلة ما من حياته، بل لأنّه وفيّ، حتى لأعدائه.
في عمره هذا، تشعر برغبة في إضافة كلمة إلى اسمه، كناية عن ذلك اللطف الذي يغمرك به. كأنّه "ابن قرية ورجل مدينة". يمكن له أن يكون جدّاً ووالداً وأخاً وصديقاً وحسين حلّال أيضاً. الرجل الذي إذا ما مرّ على مقربة من بلدية بيروت، أو التقى بأحد موظّفيها، يسمع تلك العبارة: "رزق الله على أيّامك". يرفع يده مقلّداً مُطلقها. يحبّ هذه العبارة بقدر ما تشعره أنه "خدم" ناساً كثيرين. وإذا ما ضاق الحال بأحدهم، وتقاذفه موظّفو البلدية، كان يُقال له: "روح (إذهب) عند (إلى) حسين حلّال". وهنا، لا حاجة إلى معرفة مسبقة به، فالحقّ سيّد على الجميع.
وحلّال من مواليد قرية حبّوش في النبطية (جنوب لبنان). والقرية ليست تفصيلاً في حياته. "أنا فلّاح". حتّى اليوم، ينكش الأرض. والده الذي كان يعمل في مجال الأقمشة، أراده أن يترك المدرسة ويعمل معه بعد نيله شهادة "السرتيفيكا"، الأمر الذي لم يكن بخاطره. أخيراً، كان لوالده ما أراده. ولاحقاً، لم يكن الأمر بهذا السوء بالنسبة لحلّال. شاب قادر على حمل السلاح في قريته، ويثير إعجاب الفتيات عند "الجراشة"، حتّى أنّه لُقّب بـ "زير النساء". أمّا هو، فينفي التهمة، وإن كان يردّد العبارة مبتسماً، وهو يستذكر إعجاب الفتيات به.
كثيرات أردن الزواج منه، خصوصاً أولئك اللواتي كان يوقظهن لقطف الدخان ليلاً. وهو لم يدقّ قلبه إلى أن رأى أم علي، فتاة هادئة كما أراد. "ما في أحلى من حب الضيعة". ينظر إليها اليوم، ويتذكّر احمرار وجنتيها وهي تقشّر له التين. كأنّهما احمرتا مجدّداً.
أربع سنوات من العمل مع والده، إلى أن شعر برغبة في العودة إلى المدرسة. سئم من هذه الحياة، علماً أن وضع العائلة المادي كان مقبولاً. شجار مع الوالد مرّة أخرى، وتابع دراسته. ولشدة إصراره، كان يختصر المراحل، حتى اقتنع الوالد أنه لن يكون قادراً على الوقوف في طريق ابنه. بدأ حلّال التعليم، وكان يتخصّص في الرياضيات في الجامعة. "كالعادة، شعرتُ بالملل". هُنا يتذكر مثلاً صينيّاً: "إذا غضبت الآلهة على الرجل، جعلته معلّم صبية". مثلٌ كان شرارة، وإن كان يُدرك أن للتعليم إيجابياته وسلبياته، فدرس الحقوق. ولم يكن اختياره عشوائيّاً. "فأينما وجد خرّيج الحقوق، يستطيع الوقوف على قدميه".
عمل في وزارة المالية ووزارة الأشغال العامة، إضافة إلى بلدية بيروت التي أمضى فيها 40 عاماً. يصف نفسه بـ "البلدوزر" في العمل. وهو "موسوعة" في القوانين. حتّى أنّه كان يُقال: "ما بحلها إلّا الحلّال".
تبدو القناعة الشخصية إنجاز الحلّال الأكبر في الحياة، وكأنّه بذلك حلّ لغزها. وهذه القناعة لم تلغِ طموحه يوماً، بل إنه يصف نفسه بالمغامر واللاهث وراء المعرفة. وقد تمكّن من مساعدة الكثيرين خلال حياته، بحسب ما يقول. هنا رجلٌ كان عدد من الموظفين يأخذون منه الخضار والفاكهة بحجة استخدامه أملاكاً عامة. فقيل له: "ما إلك إلّا حسين حلّال". وهناك امرأة فُقد زوجها خلال الحرب، ولم تصرف لها البلدية تعويضها، علماً أن هذا حقها. قيل لها أيضاً: "روحي عند حسين حلال".
حلّال، وهو "ضيف يخضع لتجربة في دار التكليف" أحب اللغات، وقد درس الإيطالية والألمانية، وما زال يُتقن الأولى. والوقت لم يهزمه يوماً. ربّما حافظ على عادة السهر، وقد اعتاد قطاف الدخان ليلاً. في أحد الأيام، قال لصديقه الإيطالي: باتت الحياة صعبة. فردّ: نحن الذين جعلناها أصعب. في ما مضى، كان هناك سيارة واحدة في المنزل، واليوم يوجد أربع سيارات وأربعة هواتف. "التبّولة" عند النهر كانت أمراً عظيماً. "أهم ما فعلته في حياتي أنّني أسقطت الظلم عن كثيرين"، يقول.
كان عام 1999 عامه الأخير في البلدية. "رزق الله". إلا أنه عمل في مجال المحاماة وأعدّ أنظمة للبلديات مع جامعة ولاية نيويورك – ألباني، وشارك في تدريب نحو 750 بلدية، وما زال.
في إحدى المرات، بعث كتاباً إلى ديوان المحاسبة بسبب قرار "لم يكن جيّداً". وقد أخذ الديوان، الذي يخشاه كثيرون كونه جهازاً رقابياً، برأي "حسين أفندي".
في رأسه كل ما دوّن في الجريدة الرسمية، وقرارات ديوان المحاسبة، وآراء مجلس شورى الدولة. كيف لا، "وما بحلها إلا الحلال". يحلّها إذاً ويفوز في "الكباش".