في جنوب العراق، وتحديداً في المدن التي لا تزال حتى اليوم قليلة التواصل مع التطور الإلكتروني والتكنولوجي، المميزة بأخلاق عشائرها وقبائلها العربية وكرمها، تستمر "الفزعة" فاعلة في مساعدة الغرباء والمحتاجين، الأمر الذي قد لا يتوفر في مدن عربية وأجنبية.
و"الفزعة" هي الأسلوب القديم للتعاون بين أبناء الجلدة ذاتها، وتكثر في القرى والأرياف حيث يدعو الشخص المحتاج للمساعدة في عمل ما، أبناء قريته لمساعدته فيتجمعون ويتعاونون في تلبية حاجته، وغالباً ما يكون إنجاز العمل المطلوب بالمجان، حتى وإن كان بناء بيت بكامله.
ويحدث أن يجيء الأصدقاء وأهالي القرية إلى الشخص الذي يحتاج إلى المساعدة، قبل أن يعرفوا مقدار الخدمة المطلوبة ومستوى حاجة الطالب، كما أنهم يأتون دون إخبار صاحب الحاجة بمجيئهم، إذ يكون واحد من الأهالي سرّب الخبر عن الشخص المحتاج، لأن الأخير يشعر بالإحراج ربما.
ويتكفل الأهالي من الأقارب والأصدقاء والجيران بإتمام العمل الذي ينوي الشخص إنجازه، دون أن يكون له دور مباشر في العمل، إنما يتحول إلى أشبه بالمشرف، يعطي الملاحظات للأمر الذي يريد إنجازه.
وحدث كثيراً أن يشترك الأهالي ليس في الجهود البشرية كعمال فقط، إنما يشاركون بالمصروفات أيضاً، ففقراء القرى في الجنوب تتكفل العشائر بتوفير مساكن لهم، دون دفع درهم واحد، ولا حتى المشاركة بالبناء، ويُجمع من كل بيت ما هو فائض من الأثاث والمستلزمات المنزلية وأدوات الطبخ وغيرها، وليس انتهاء بلوازم الزينة.
ومن خلال الفزعة، أُسست بيوت كثيرة على أراضٍ أعطيت هدية لأشخاص. وفي هذا الصدد، يخبر عباس الغزي من قرية في الشطرة بمحافظة ذي قار، أنه مرَّ بتجارب قاسية للحصول على وظيفة حكومية؛ "لذا تقدمت إلى شيخ قبيلة معروفة، وشرحت له وضعي وحالتي، وأنني بحاجة إلى سكن". وقال لـ"العربي الجديد": "الشيخ اجتمع بأبنائه وأقاربه وطلب منهم الوقوف معي، والفزعة لاختيار قطعة أرض من ستين متراً وبناء مسكن لي ولأختي عليها، وتكفل الأهالي بكل الاحتياجات دون أي أجر، وبدوري شاركت بعد ذلك في فزعات كثيرة لمساعدة محتاجين".
وبحسب الثقافة السائدة في مناطق جنوب العراق، فإن من يساعده الناس، عليه أن يساعد نفسه للنهوض بواقعه، وألا يبقى متكلاً على إعانات الآخرين ومساعداتهم، وإلا فإنه سيصبح منبوذاً، وقد يُطرد من القرية، ويُرمز له بأنه "يكسر الوجه"، بمعنى أنه لا يستحق المساعدة.
وأشار أحد وجهاء عشائر ذي قار، علي نايف البدري، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إلى أن "للفزعة أنواعاً، منها فزعة عشيرة لعشيرة أخرى في أوقات الصراعات والقتال، وانتهت هذه الفزعة مع مرور الزمن، فكانت حين تريد عشيرة معينة أن تقاتل عشيرة أخرى تفزع لها العشائر القريبة منها، أو تتدخل لوضع حل للنزاع عبر الوساطة والصلح بينهما"، مضيفاً أن "هناك فزعة النساء للنساء، وتحديداً للأرامل، اللواتي فقدن أزواجهن في المعارك مع التنظيمات الإرهابية أو النزاعات العشائرية التي كانت تحدث، أو ممن تعرضن لحوادث، ويقوم الرجال بتوجيه النساء للذهاب إلى الأرامل ومساعدتهن وتستمر المساعدات دورياً، ولا تنقطع نهائياً".
وأكمل أن "الفزعة للمحتاجين هي الأكثر انتشاراً، إذ يطلب شيخ العشيرة أو ينوب عنه بإعلان فزعة الكرم، وهي لإغاثة المواطنين الذين لا يملكون بيوتاً أو أعمالاً كريمة، أو في العزاءات، إذ كما هو معروف أن العزاء يحتاج إلى أموال كثيرة في الجنوب، ومن لا يملك الأموال، يتم ترتيب أموال العزاء واحتياجاته من الأهالي، والأمر ينطبق على تزويج الفقراء"، لافتاً إلى أن "الفزعة لا تحدث بأرياف جنوب العراق فقط، إنما في كل مناطق الجنوب حتى في المدن، لأن الثقافة العراقية واحدة بين الريف والمدينة".
وبيَّن عضو المجلس المحلي في محافظة ذي قار، جنوب العراق، حسين الغالبي، أن "الفزعة موروث ثقافي وديني لدى أهالي الناصرية، ومتجذر في أصوليات القبائل العربية الموجودة في المدينة. والفزعة ساعدت كثيراً من الفقراء للوصول إلى مرحلة بناء البيوت. وظلت قريبة من الفقراء إلى أن تمكنوا من الارتقاء بواقعهم المعيشي والاقتصادي".
وأوضح لـ"العربي الجديد"، أن "الفزعة العشائرية ساعدت الحكومات المحلية في الجنوب كثيراً في أوقات عصيبة، مثل نزوح أهالي بغداد خلال فترة 2003 وحتى 2006، حين هُجر مئات الآلاف من المواطنين على أسس طائفية وتوجّه المهجرون إلى مناطق متفرقة ومن ضمنها الجنوب، إذ دعت العشائر أبناءها إلى "الفزعة" ومساعدة المهجرين لتوفير مساكن لهم واحتوائهم، لا سيما من اضطروا للهرب من بغداد بملابسهم ودون أموال أو أغراض ضرورية".
وتابع أن "فزعة أهالي الناصرية والبصرة والديوانية والسماوة والعمارة وبابل وغيرها، بعد احتلال تنظيم "داعش" مناطق شمال البلاد وغربها، وفرت لأهالي المناطق التي احتلها التنظيم احتياجات كثيرة وكانت ضخمة بأغلبها، إذ أفرغت محافظة كربلاء مثلاً بيوتاً للنازحين، كذلك الحال مع أهالي الديوانية الذين ساهموا في بناء معامل لتصفية المياه، وتوفيرها للنازحين أيضاً، وينطبق الأمر على النجف وغيرها من مناطق الجنوب"، مشيراً إلى أن "الفزعة لن تنتهي بزوال التأثير العشائري على العراقيين في الجنوب، لأنها علاقة إنسانية بين العراقيين وليست فرضاً أو واجباً بالإكراه".