كانَ عزفه ملفتاً. يقفُ وحده بصحبة الكمان وسط شارع الاستقلال في إسطنبول، الذي يعجّ بالسياح والعازفين من ثقافات وجنسيات مختلفة. إلا أن الطفل السوري، آلاند صالح، استطاع جذب عدداً كبيراً من المارّة الذين صاروا يتجمعون حوله للاستماع إلى ألحانه الشرقية. كان عزفه يدلّ على نضجٍ موسيقي، هو الذي لم يتجاوز العشر سنوات. ولأنه كان سبباً في رسم ابتسامة على ثغور البعض، فلم يتردّد هؤلاء في وضع بضع ليرات على مقربة منه قبلَ أن يمضوا.
بعضُ الموسيقيين الذين التقوا صالح، واستمعوا إلى عزفه، أجمعوا على امتلاكه موهبة فريدة. تقولُ الموسيقية ميساء الحافظ، وهي قائدة كورال "موزاييك"، إن "موهبة صالح واضحة جداً لأي مستمع أو موسيقي. لدى الطفل أذن موسيقية، قد تجعله يصبح أحد أهم العازفين في المستقبل".
عام 2013، خرج صالح مع عائلته الصغيرة المكونة من أب وأم وثلاثة أشقاء، كان هو أكبرهم، من مدينة الحسكة بسبب الحرب. قررت هذه العائلة، على غرار عائلات سورية كثيرة، البحث عن فرصة حياة أفضل في الخارج بعيداً عن القتال والدمار. في البداية، مكثوا في مدينة أربيل في إقليم كردستان، والتحق صالح بإحدى المدارس، لكنه سرعان ما تركها عندما سافر والده إلى ألمانيا، فيما قدم بقية أفراد العائلة إلى إسطنبول بانتظار اللحاق به. يقول صالح إنّه "يحبّ سورية أكثر، ويتمنى العودة إليها. الناس طيبون هناك، لكنهم لا يستطيعون إنهاء الحرب".
طوال هذه المدّة لم يتوقف عن العزف. لكن منذ ثمانية أشهر، وتحديداً بعد خروجهم من العراق، لم يلتحق بأي مدرسة، ولم يستطع إكمال تعلّم الموسيقى. يقول: "لا أعرف السبب. لكنهم لم يدعوني أذهب إلى المدرسة هنا"، قبل أن توضح الأم أن المدرسة رفضت استقباله. يفترض أن يكون اليوم في الصف الخامس الابتدائي، لكنه توقف عند الصف الثالث. حين يتذمّر، تعده والدته بأن كل شيء سيكون على ما يرام بمجرد وصولهم إلى ألمانيا.
حين كان في الرابعة من عمره، اشترى له والده آلة كمان. تقول والدته إنه "لم يتح لأبيه تعلّم العزف، فأراد تحقيق حلمه من خلال ابنه. لم نكن نتوقع أن يحب هذه الآلة إلى هذا الحد". تعلّم العزف من خلال دورات تعليمية مع عازفين في المدينة فقط. تشير الحافظ إلى أن "الطفل يحتاج اليوم إلى كثير من التدريب حتى يُحقق ما يستحق أن يكونه في المستقبل، وهذا ليس متاحاً اليوم". تضيف أن "العازف الماهر هو عبارة عن 5 في المائة موهبة، و95 في المائة مهارات مكتسبة. فمن شأن التدريب أن يصقل موهبته، وخصوصاً أن آلة الكمان تُعدّ من أصعب الآلات".
منذُ قدومه إلى تركيا، توقّف صالح عن تعلّم الموسيقى بسبب ارتفاع كلفة الدروس هنا، علماً أن معظم العائلات السورية تعاني من ضائقة مادية. وبسبب عدم وجود حاضنة حقيقية لموهبته، انتقل إلى الشارع، وبدأ العزف للمارة وكسب بعض المال. ظل على هذه الحال حتى أمره شرطيان بالتوقف عن العزف وصادرا الكمان، ليتبيّن لاحقاً أنهما لصان. حزن كثيراً، ما دفع بعدد من المعجبين بموهبته إلى إهدائه كماناً جديداً. يقول صالح: "إن حاولوا أخذه مرة جديدة، سأحصل على آخر".
في السياق، تقول الحافظ إن "استخدام الطفل موهبته لكسب المال من شأنه أن يقتل هذه الموهبة. مكانُ صالح هو المدرسة صباحاً والمعهد الموسيقي مساءً. إنه لأمر خطر أن تتحول هذه الموهبة إلى مهنة في هذا العمر، بدلاً من أن تكون الخطوة الأولى على طريق النجاح".
تضيف أن "انتقال الموهبة إلى الشارع تؤثر على الطفل بطريقة سلبية. نظرة واحدة كفيلة بأذيته، عدا عن احتمال تعرضه للسرقة. لن ينسى أموراً كهذه. لن ينسى أنه بدأ العزف من الشارع، وكان جمهوره من المارة". يحلمُ صالح أن يصبح عازفاً محترفاُ كدلشاد سعيد، أحد أشهر عازفي الكمان. يؤكد أنّه سيقول إنه سوري وليس ألماني عندما يصبح مشهوراً مثله.
تقول الحافظ إن هناك كثيراً من الموسيقيين السوريين الموهبين الذين يحتاجون إلى رعاية. يجب أن يكون هناك مركز موسيقي يحتضنهم، إذ إن معظم المراكز الموجودة تطلب مبالغ مادية قد تكون كبيرة.
ربما قليلاً ما تجد طفلاً يجيد العزف في سورية. وتحمّل الحافظ المسؤولية للمدارس، لافتة إلى أن درس الموسيقى كان أشبه بحصة فراغ، على الرغم من وجود أساتذة في الموسيقي قادرين على خلق جيل موسيقي. لا يعرف صالح ماذا تُخبّئ له الأيام. ينتظر أن تكون ألمانيا فرصته للعبور إلى حلمه. يريد فقط أن يصير عازفاً مشهوراً، هو الذي لطالما أحب الموسيقى والكمان.
اقرأ أيضاً: هجرة قاصرة.. أطفال من دون أهل في بلدان اللجوء