رأيته جالساً في الركن المخصص بحياكة الصوف في المكتبة العامّة. رجل أربعيني هادئ الملامح بين مجموعة من السيدات تجمعهم هواية الحياكة.
لا بدّ لقارئ هذه المقدمة أن يرسم لهذا الشخص صورة في ذهنه دون أن يراه أو يتعرف إليه. ربما يعتبر بعضنا أن رؤية رجل يمارس هذه الهواية في مكان عام أمر مستغرب وغير مستحب أو حتى منكر. وقد يرى آخرون أنه يملأ أوقات فراغه بهواية "نسائية"، ولا شك بأنّ أحكاماً أقسى من ذلك سيطلقها أشخاص يجدون فيه خللاً ما ويشككون برجولته.
بعد التعرف إلى بعض من كانوا في الجلسة وهو من بينهم، علمت أنه أستاذ جامعي يدرّس في واحدة من أهمّ جامعات علوم الكومبيوتر في العالم، وأنه من أذكى وأبرز المدرسين فيها، وأن الطلبة يتهافتون على حضور حصصه. وأنّ هذا الشخص صاحب الهواية غير المألوفة في عالم الذكور، خلوق ومحترم ويتعامل مع تلامذته بتواضع، ويحرص على إفادتهم بأقصى ما يمكنه من جهد ووقت.
بالنسبة لي شعرت بالفرح عند رؤيته، ربما لأنه أعطاني انطباعاً بأنه شخص متحدٍ وواثق من نفسه، لا يهتم بأحكام الآخرين بقدر ما يفكر براحته الشخصية وبممارسة هواية تسعده.
برّرت قدرته على التحدي لكونه غير عربي، على اعتبار أن الفتيان لا يُربَّون في بيئاتنا على أفعال "البنات"، ولكون الغالبية منّا تحرص على تصنيف الأفعال بين أنثوي وذكوري، والحياكة في مجتمعاتنا فعل نسائي طاغٍ.
ذلك الموقف ذكرني بذكور عرفتهم وأنا صغيرة يحيكون الصوف، ويتعاملون مع الخيوط والصنارة بحرفية وإتقان، كانوا جيراناً لنا في المدينة. كانوا أشقاء من عمري وأكبر يساعدون أسرتهم على الحياكة من ضمن عملهم العائلي. لم تكن هواية بل عملاً، لكنه كان يحصل داخل البيت بدون مجاهرة.
وبقدر ما احترمت "تحدي" هذا الحائك الأربعيني، راجعت نفسي بشأن "أفعال" لم أقدم عليها، ومواقف ترددت في إعلانها رغم إيماني بها، مسايرة مني للوسط الاجتماعي، ومن باب حرصي على السير وفق المألوف.
لم يزعج أحداً بجلوسه هناك هادئاً ومسالماً، يتحدث مع الموجودات بينهن زميلات له في الجامعة، يمسك الصنارة وكرة الصوف ويحيك. لم يكن في تلك اللحظة وفي هذا الركن بالتحديد ما ينتقص من قدره، بل كان مقبولاً، والأرجح لأن غالبية الموجودات كنّ غير عربيات.
اقــرأ أيضاً
ما الخطأ لو كنّا تربينا على السلوك بشجاعة، ما دام سلوكنا لا يضرّ ولا يزعج ولا يتعدى على الآخر. لماذا يحصل العكس ونغلف الممنوع باسم الخجل، ونعطي للقمع اسم الأصول؟
فرحت لأن تلك الصدفة السعيدة جعلتني أثق بأن جهدي على تدريب نفسي على قبول الآخر أتت ثمارها، وسعدت بحائك الصوف وبنفسي لأنني قدّرته حق قدره واحترمت فيه شجاعته وتحديه.
لا بدّ لقارئ هذه المقدمة أن يرسم لهذا الشخص صورة في ذهنه دون أن يراه أو يتعرف إليه. ربما يعتبر بعضنا أن رؤية رجل يمارس هذه الهواية في مكان عام أمر مستغرب وغير مستحب أو حتى منكر. وقد يرى آخرون أنه يملأ أوقات فراغه بهواية "نسائية"، ولا شك بأنّ أحكاماً أقسى من ذلك سيطلقها أشخاص يجدون فيه خللاً ما ويشككون برجولته.
بعد التعرف إلى بعض من كانوا في الجلسة وهو من بينهم، علمت أنه أستاذ جامعي يدرّس في واحدة من أهمّ جامعات علوم الكومبيوتر في العالم، وأنه من أذكى وأبرز المدرسين فيها، وأن الطلبة يتهافتون على حضور حصصه. وأنّ هذا الشخص صاحب الهواية غير المألوفة في عالم الذكور، خلوق ومحترم ويتعامل مع تلامذته بتواضع، ويحرص على إفادتهم بأقصى ما يمكنه من جهد ووقت.
بالنسبة لي شعرت بالفرح عند رؤيته، ربما لأنه أعطاني انطباعاً بأنه شخص متحدٍ وواثق من نفسه، لا يهتم بأحكام الآخرين بقدر ما يفكر براحته الشخصية وبممارسة هواية تسعده.
برّرت قدرته على التحدي لكونه غير عربي، على اعتبار أن الفتيان لا يُربَّون في بيئاتنا على أفعال "البنات"، ولكون الغالبية منّا تحرص على تصنيف الأفعال بين أنثوي وذكوري، والحياكة في مجتمعاتنا فعل نسائي طاغٍ.
ذلك الموقف ذكرني بذكور عرفتهم وأنا صغيرة يحيكون الصوف، ويتعاملون مع الخيوط والصنارة بحرفية وإتقان، كانوا جيراناً لنا في المدينة. كانوا أشقاء من عمري وأكبر يساعدون أسرتهم على الحياكة من ضمن عملهم العائلي. لم تكن هواية بل عملاً، لكنه كان يحصل داخل البيت بدون مجاهرة.
وبقدر ما احترمت "تحدي" هذا الحائك الأربعيني، راجعت نفسي بشأن "أفعال" لم أقدم عليها، ومواقف ترددت في إعلانها رغم إيماني بها، مسايرة مني للوسط الاجتماعي، ومن باب حرصي على السير وفق المألوف.
لم يزعج أحداً بجلوسه هناك هادئاً ومسالماً، يتحدث مع الموجودات بينهن زميلات له في الجامعة، يمسك الصنارة وكرة الصوف ويحيك. لم يكن في تلك اللحظة وفي هذا الركن بالتحديد ما ينتقص من قدره، بل كان مقبولاً، والأرجح لأن غالبية الموجودات كنّ غير عربيات.
ما الخطأ لو كنّا تربينا على السلوك بشجاعة، ما دام سلوكنا لا يضرّ ولا يزعج ولا يتعدى على الآخر. لماذا يحصل العكس ونغلف الممنوع باسم الخجل، ونعطي للقمع اسم الأصول؟
فرحت لأن تلك الصدفة السعيدة جعلتني أثق بأن جهدي على تدريب نفسي على قبول الآخر أتت ثمارها، وسعدت بحائك الصوف وبنفسي لأنني قدّرته حق قدره واحترمت فيه شجاعته وتحديه.