يختلف المسيحيون اللبنانيون عن غيرهم من المسيحيين في الشرق الأوسط في نسبتهم الكبيرة من عدد السكان، مع ما يتيحه موقعهم من مناصفة تمثيلية ووظيفية مع المسلمين، كما أنّ لبنان هو البلد العربي الوحيد برئيس مسيحي.
المسيحيون في لبنان اثنتا عشرة طائفة، مقابل أربع طوائف إسلامية هي السنّة، والشيعة، والدروز، والعلويون. يندرج في إطار الطوائف المسيحية: الموارنة، والكاثوليك، والروم الأرثوذكس، والأرمن بكاثوليكييهم وأرثوذكسييهم، والبروتستانت، والآشوريين، والكلدان، والأقباط.
لا ينص الدستور اللبناني على مارونية رئيس الدولة وشيعية رئيس المجلس النيابي وسنّية رئيس مجلس الوزراء، إنّما يؤكد على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في توزيع أعضاء مجلس النواب (البرلمان) البالغ عددهم 128 نائباً، وكذلك في مواقع الفئة الأولى بين موظفي الدولة. مع ذلك، فإنّ العرف بات حاسماً في توزيع الرؤساء الثلاثة على الطوائف المذكورة، وكذلك أن يكون نائب رئيس الحكومة من طائفة الروم الأرثوذكس. ويجري الصراع على توزيع الوزارات بين الممثلين السياسيين للمذاهب، ويشيع التمييز بين وزارة رئيسية ووزارة ثانوية، و"تناضل" كل طائفة وازنة في السياسة والعدد للحصول على أكثر من وزارة رئيسية باعتبار ذلك من حقوقها المكتسبة. والجديد في الحياة السياسية في غضون العقد الأخير هو التأخر في انتخاب رئيس الجمهورية عن الموعد الدستوري المحدد للعملية، والتمديد المتكرر لمجلس النواب وتعقد تشكيل الحكومة لأشهر. وهذه وتلك قد تمتد لأشهر أو سنوات تبعاً لما يصفه الصحافيون بورود "كلمة السر" التي تأتي من القوى النافذة دولية وإقليمية. والحصيلة أنّ المسيحيين أكثر من غيرهم يعيشون على صفيح ملتهب، فإلى جانب الإرباكات الداخلية الناجمة عن بنية سياسية معقدة، هناك الجوانب الملازمة للأزمة وهي اقتصادية واجتماعية وبيئية ومعيشية مع شبه المقاطعة الخليجية وحال الحصار التي فرضتها أحداث سورية على الصناعة والزراعة والتواصل البري بين لبنان والمنطقة العربية.
صلاة وخشوع (أنور عمرو/ فرانس برس) |
بين السنّة والشيعة
بالعودة إلى الدستور، نشير إلى أنّ الوصف الذي يمكن أن يطلق على النسخة الأخيرة منه (دستور الطائف تم إقراره في العام 1990) بعد تعديل الدستور السابق، هو أنّه هجين، فلا هو علماني ولا هو طائفي. وخلافاً لكثير من الدساتير العربية لا وجود في نص الدستور اللبناني لدين الدولة ومراجع التشريع فيها. فهو في جانب ينص على المساواة بين المواطنين والمواطنات، ومن جهة ثانية يكرّس حقوق الطوائف في اعتماد محاكمها الروحية وتطبيق قوانين الأحوال الشخصية على المنتمين إليها. وعليه، فإنّه يساوي في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين ويعلن احترامه كلّ الأديان. وفي لبنان 18 مجموعة دينية أو طائفة معترفا بها رسمياً في البرلمان ومجلس الوزراء والمحاكم. هذا الاعتراف لا يعني التوازي بين كلّ منها في إشغال إدارة البلاد والتمثيل والوظائف العامة. وتبعاً للأوضاع العامة الداخلية والمحيطة وتوازناتها وتحالفات الطوائف العابرة للحدود تتغير التوازنات ومراكز الثقل في المعادلة اللبنانية دوماً. ومع أنّ المسيحيين بعموم طوائفهم يعيشون وسط تفجر إقليمي، إلا أنّ التوتر الأقصى راهناً هو بين السنّة والشيعة، خصوصاً مع تدخل حزب الله في الحرب السورية، وجملة المواقف التي يطلقها أمينه العام حسن نصر الله وتقود إلى توترات تتجاوز حدود بلاد الأرز والبخور والدم.
وتعتبر الخارجية الأميركية في تقرير لها أنّ امتداد تنظيم "داعش" وجبهة النصرة في العراق وسورية ساهم في توتر العلاقات الطائفية بين المجموعات الدينية في لبنان. ويلفت التقرير إلى زيادة الهجمات المرتكبة من "داعش" والنصرة والجماعات المتطرفة في لبنان خلال الأعوام الماضية، تحديداً في منطقة طرابلس، كما ارتكاب عدد من ممثلي المجموعات الدينية أعمالاً إرهابية لتخويف المسيحيين. بالرغم من ذلك، بقيت أماكن العبادة تمارس عملها بسلام، إنّما وسط حراسات أمنية مشددة، وتستمر العلاقات بين أفراد من الجماعات الدينية المختلفة ودية عموماً، مع بعض الاستثناءات. ومن المعروف أنّ التفجيرات التي ضربت لبنان طاولت في المقام الأول مناطق تتبع السنّة أو الشيعة (طرابلس والضاحية)، وقد كشفت شبكات كثيرة كخلايا نائمة، أبرزها من دون منازع شبكة الوزير السابق ميشال سماحة ورئيس الاستخبارات السورية العامة علي المملوك، وهي قضية أصدرت المحاكم حكمها بشأنها. ويرى التقرير أنّ "الوضع في لبنان يظل أفضل قليلاً من غيره، تبعاً لمبدأ تقاسم السلطة، في حين يتعرّض الأقباط في مصر لازدراء ثقافي واجتماعي، ويُتهمون بالارتباط بالغرب".
تراجع
تأسس الكيان اللبناني في الأصل على عمود فقري مثله الجبل الماروني- الدرزي ، لكنّ الديناميكية التي مثّلتها البطريركية المارونية كانت على الصعيد الفعلي هي حجر الزاوية. وقد كان المفكرون والمثقفون والسياسيون ورجال الأعمال المسيحيون عمادها، وكان من نتائج ذلك إعلان قيام دولة لبنان الكبير بعد ضم الأقضية الأربعة إلى الجبل الماروني - الدرزي عام 1920. وقد انخرطت الديناميكية المارونية ثم السنّية في مشروع قيام الدولة اللبنانية على مستوياتها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والصحية. وقد حقق لبنان موقعاً مميزاً في المنطقة في المجالات السابقة وبات واحة حداثة في قلب منطقة كانت حتى ذلك الوقت تعاني من تخلّف بناها وهياكلها الإدارية والسياسية والعلمية والخدمية.
الدخول الشيعي في معادلة الكيان جاء متأخراً نظراً للمواقع الطرفية التي يشغلها أبناء الطائفة وطبيعة القوى المهيأة وغياب الطبقة البورجوازية. كلاهما حركة الإمام موسى الصدر واليسار اللبناني هما من أدخلا الطائفة في معادلات الكيان، ثم جاء ثنائي أمل وحزب الله لا سيما بعد تحرير الجنوب عام 2000 ليمسك بزمام الأمور ويهيمن على السلطة، مع استناد حزب الله تحديداً إلى الاندفاعة الإيرانية في قلب المنطقة العربية.
إدارة سورية للبنان أو ما يعرف بعهد الوصاية، منذ العام 1990 تاريخ توقيع اتفاق الطائف حتى عام 2005، أضعف الدور المسيحي القوي منذ تأسيس الكيان إلى الحرب الأهلية، خصوصاً مفصل الصراعات الداخلية بين تيار الجنرال ميشال عون -رئيس الجمهورية حالياً- والقوات اللبنانية. لكنّ حقبة الوصاية انكسرت بقرار دولي وتحرك داخلي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وبالتالي اُعلن عن نهاية حقبة السيطرة السورية على القرار السياسي في لبنان، وتمت بعدها عودة المنفيين وإطلاق المعتقلين (عون وسمير جعجع). لكن هذا لم يقد إلى عودة مباشرة للعب الدور التقليدي في الكيان وعلى صعيد المعادلات الداخلية التي باتت في أساسها تخضع لاعتبار الصراع السنّي- الشيعي خصوصاً مع اتهام حزب الله بتدبير وتنفيذ الاغتيال. لكنّ الاحتقان المذهبي هذا أدى إلى بروز أهمية الدور المسيحي لامتصاص التوتر السابق ومنعه من الانفجار. وهو ما لم يحدث بعدما باتت القوى المسيحية الوازنة موزعة الولاء بين فريقي 8 آذار (مارس) و14 آذار. وما فاقم الوضع كان تداعيات الاحتقان المذهبي على مستوى المنطقة ومحاولة ممثلي جبهتي الاحتقان استمالة الطرف المسيحي كلّ إلى صفه. مع ذلك، ترتفع في الأوساط العقلانية والليبرالية الأصوات المنادية بضرورة العودة إلى التراث المسيحي الديمقراطي التقليدي في رفع راية الحداثة على صعيد المنطقة، بما يحلّ الأزمة العاصفة في ربوع بلاد العرب وضمنها لبنان بطبيعة الحال. لكنّ مثل هذه الدعوة تظل حبيسة مواقع غير مؤثرة بالنظر إلى هامشية المنادين بها وجملة القيود المرتبطة بالمعادلة السياسية الدستورية، ومنها ما هو عائد إلى المتغيرات الديموغرافية والاجتماعية التي أثّرت على الأوضاع اللبنانية.
قيّدت وثيقة الطائف من دور رئيس الجمهورية وقلّصت صلاحياته إلى حد كبير، مقابل تعزيزها موقعي رئيس مجلس النواب ومجلس الوزراء داخل المعادلة الدستورية والسياسية الحاكمة. ولم تخبُ نيران المعارك السياسية بين أركان الأحزاب والقوى السياسية المسيحية بالرغم من الثنائية التي تجمع بين القوات اللبنانية (جعجع) والتيار الوطني الحر (عون) لكنّ ورقة تفاهمهما تظل مشدودة إلى مرجعيتين سابقتين، ممثلة بورقة التفاهم بين حزب الله والتيار، وانضواء القوات في إطار قوى الرابع عشر من آذار. لكنّ الأبرز يظلّ متمثلاً في حدة الاستقطاب الذي تشهده المنطقة واستمرار اندلاع الحريق السوري ضاغطاً بثقله الإقليمي عموماً وعلى لبنان الهش أصلاً، بالإضافة إلى وجود نحو مليون ونصف مليون مهجّر سوري على الأراضي اللبنانية لا يستطيع أحد أن يتكهن بتاريخ وإمكانية عودتهم أصلاً إلى بلادهم.
محاولات عودة
يحاول طرفا التفاهم المسيحي الآن، التيار والقوات، العودة إلى النظام القديم بآلياته المعروفة بما فيه إعادة الاعتبار لموقع رئيس الجمهورية والدور الذي كان يلعبه، وبالتالي تقليص دوري رئيسي مجلس النواب والحكومة، ما يؤشر إلى حلم العودة إلى ركائز الهيمنة المارونية التقليدية على النظام برمته، علماً أنّ هذه الهيمنة لم تكن سياسية فقط، إذ كانت لها جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية، وهو ما تجاوزته الطوائف ونخبها التي خرجت من هامشية الكيان وباتت في صميم سطوره وصفحاته.
الصراع الذي يعيشه لبنان يصل لدى مسيحييه إلى مستوى القلق على الوجود جرّاء تعقد المشهدين الداخلي والإقليمي وتداخلهما، فإذا كان لبنان قد شهد حرباً أهلية طاحنة بين العامين 1975 و1990، فالطامة اليوم أشد صعوبة بالمقارنة مع الطروحات السائدة المتصاعدة في ضوء تداعيات الحرب في سورية. وعليه، يمكن القول إنّ الأمور ترتقي إلى مستوى الحالة الوجودية المهددة. وقد حاول المسيحييون الابتعاد عن هذه المعمعة بوجهيها الداخلي والإقليمي من خلال ابتداع فكرة القانون الأرثوذكسي للانتخابات النيابية وغيره. إنّ جملة هذه التفاعلات الداخلية - الإقليمية - الدولية تترك مضاعفاتها على لبنان وعلى المسيحيين فيه، وتنعكس خوفاً من القريب والبعيد على حد سواء. وما يزيد من خطورة الوضع أنّ المسيحيين يفقدون زمام المبادرة تباعاً، وتستغرق قواهم السياسية الرئيسية في إدارة الصراعات اليومية عن التفكير على نحو استراتيجي، وتقديم خيارات تعالج مكامن الخطر. ويتمظهر هذا الوضع في البحث عن حلول ضمن آلية وبنية السائد الطائفي. كلّ هذا يجري فيما الفرز الطائفي الذي أنتجته الحرب الأهلية باقٍ ومترسخ، تعززه عمليات بيع وشراء الأراضي، التي تنقل ملكيّتها من أفراد مسيحيين إلى أفرادٍ مسلمين، وما تتركه من مخاوف كبيرة.
انطلاقاً من الواقع الذي يعيشه لبنان وسائر الدول العربية غير المرضي لكثيرين، يتفق المسيحيون ونسبة مقبولة من نخب المسلمين اللبنانيين الثقافية وحتى السياسية على أنّ أحد مداخل إصلاح الوضع فيه هو في إعادة الاعتبار للدور المسيحي الليبرالي، حتى لا يخسر لبنان طابع التعددية السياسية والحزبية والتنوع الاجتماعي والثقافي والحداثة ومناخ الليبرالية والحريات العامة والفردية. وهي ميزات مهددة بالتبدد بفعل حرائق المنطقة التي لا تبقي ولا تذر أمامها.
ولبنان هو البلد الوحيد في الوطن العربي الذي يتولى رئاسته مسيحي بحكم العرف الدستوري. كذلك، فإنّ اللبنانيين منتشرون حول العالم كمهاجرين ومغتربين أو متحدرين من أصول لبنانية. ويبلغ عدد سكان لبنان بحسب تقدير الأمم المتحدة لعام 2008 نحو 4.099.000 نسمة. ويُقدّر عدد اللبنانيين المغتربين والمتحدرين من أصل لبناني في العالم نحو 8.624.000 نسمة، وفقاً لإحصائية من سنة 2001، ينتمي أكثرهم إلى الديانة المسيحية، وذلك لأنّ الهجرة اللبنانية أول ما بدأت كانت من متصرفية جبل لبنان ذات الأغلبية المسيحية إلى مصر، قبل المرحلة الأميركية.
وقد ساهم المسيحيون في لبنان خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في حركة النهضة العربية، فلعبوا دوراً رئيسياً في الإحياء الثقافي والسياسي العربي كفتح المدارس، وتجديد اللغة العربية، وإصدار الصحف، وتأسيس الجمعيات، والأهم المساهمة في تأسيس الجمعيات السياسية العربية مع المسلمين، والمطالبة باللامركزية وجعل اللغة العربية رسمية في إدارة الدولة والمحاكم وغيرها.
*باحث وأستاذ جامعي