عندما وصل توماش شالامون (1941 ـ 2014) إلى "مهرجان سان ميغيل دي ألندي الشعري" قبل سنتين معتلَّ الظهر، من جراء إصابته أثناء التزلج على سور الصين العظيم، لم أندهش حينما عرفت أنه خاطر بحياته وعظامه طلباً للمتعة. فقد كان الشاعر السلوفاني يبدو منعماً بهبة الشباب الدائم حتى رحيله السبت الماضي في بيته في لوبليانا.
كان دائم الانتباه لما يفعله الشعراء الشبان، فهم الذين كانوا يغذون خياله، وكانوا يردّون له انتباهه هذا بترجماتهم أعماله ومحاكاتهم إياها، فصار من المفارقات أنه استطاع ـ وهو الذي كان يكتب بلغة لا يتكلمها إلا ما دون المليوني نسمة ـ أن يؤثر بترجماته العديدة إلى اللغة الإنجليزية على مدار العديد من العقود في الأدب الأميركي. أما ما أدهشني بحق في مغامرته الصينية فهو أنه لم يخرج منها سالماً، وأنا الذي كنت أعرفه في خيالي عصياً على الأذى.
ولد في زغرب بكرواتيا سنة 1941، ونشأ في مدينة كوبر الساحلية، إلى الجنوب من تريستي، ودرس تاريخ الفن في جامعة ليوبليانا. اعتقل وهو في الثالثة والعشرين من عمره لتحريره جريدة أدبية، وأفرج عنه بعد خمسة أيام، بفضل ضغوط من الإعلام الدولي، فقرر أن يستغل شهرته الحديثة تلك في الشعر الذي كرّس له حياته كلها.
يلاحظ الشاعر الأميركي روبرت هاس أن بيوطيقا شالامون "ليست بيوطيقا ثورة بل طِراد" تأثر فيها برامبو ولوتريامون والرمزية الفرنسية والمستقبليين الروس ومدرسة نيويورك. ولقد أسس في إحدى قصائده الأولى، وهي قصيدة "كسوف" ملامح منحاه الإستطيقي الذي سيظل يمارسه بأسلوبه الارتجالي عبر عشرات الكتب. يقول "مللت صور القبيلة/ فرحلت". رأى "عالماً حاد الحواف/ قاسياً، أبدياً". هذا هو المقطع الثاني من "كسوف".
سآتي بالمسامير
المسامير الطوال
وأدقها في جسمي.
بغاية غاية الرقة
وغاية غاية البطء
فتدوم لزمن أكبر.
سأضع خطة دقيقة.
سأنجِّد من نفسي كل يوم
قل سنتيمترين مربعين،
ثم إني سأضرم النار في كل شيء
وتدوم النار نهاراً كاملاً
وتدوم لسبعة أيام
ولا يبقى سوى المسامير
ملتحمةً كلها
وصدئة
وبذلك أبقى
بعدما يزول كل شيء.
وبقي بالفعل. برغم قيام السلطات اليوغسلافية في فترة ما بمنعه من تولي أي وظيفة طبيعية، فاضطر في إحدى مراحل حياته إلى أن يعمل في بيع الموسوعات وكتب تعليم المهارات من بيت إلى بيت. ومرة قالت له امرأة إنها غير مهتمة بالكتب التي يبيعها، فسألها: وما الذي تحبين قراءته؟ قالت: أنا لا أحب إلا كافكا وبروست وشالامون. فقال أنا شالامون. كان في تلك الأثناء يعرض الفنون البيئية والمفاهيمية في يوغوسلافيا في متحف الفن الحديث، وفي عام 1970 فاز بمنحة لبرنامج الكتابة الدولي في جامعة أيوا، وأدّت صداقته هناك مع "أنسيلم هولو" و"بوب بيرلمان"، الذي ترجم شعره إلى الإنجليزية، واكتشافه أيضاً لـ"الشعراء الأمريكيين"، فرانك أوهارا وجون أشبري ووالت ويتمن ووالاس ستيفنس إلى توسيع مفهومه للممكن، فظلّ على مدار ما بقي له من العمر يستغل كل فرصة تتاح له للرجوع إلى الولايات المتحدة، سواء للمشاركة في برامج للكتاب المقيمين، أو للعمل كأستاذ زائر، أو للمشاركة في قراءات شعرية.
كانت فضاءات أميركا المتسعة تفتح خلاياه، بحسب ما قال، مؤكداً أن قصائده لم تبدأ في التنفس إلا بعد أن ترجمت إلى الإنجليزية. وجاء نشر مختارات من شعره بالإنجليزية سنة 1988 لتقدمه إلى القراء الأميركيين في اللحظة التي كانت تشهد تفجّر يوغسلافيا. وبدا أنه كان قد تنبأ بالحروب والاضطرابات فقد كتب في "كسوف" يقول "ويبدو أنه ليس مسموحاً لأحد بالوجود في أرضي". وبدا يائساً حينما التقيته في ليوبليانا في صيف 1992، وكانت معسكرات الاعتقال الصربية للأسرى البوسنيين قد بدأت تظهر في النور، وبدا أن العالم القاسي، حاد الحواف الذي لمحه في قصيدة له قد بدأ يتشكل من حوله، وعلى مدار أربع سنوات، لم يكتب أي شيء.
وبعدما انتهت المجزرة، عاوده الشعر ـ مثلما قال ذات مرة ـ يتقاطر "كحجارة من السماء"، وسرعان ما عيِّن ملحقاً ثقافياً للقنصلية السلوفانية الجديدة في مدينة نيويورك.
"توماش شالامون، تفضل"، بذلك كان يرد على الهاتف، فكأنه ربّة الشعر نفسها. زرته في أول يوم إجازة له هناك، وقضينا ذلك اليوم معاً في ترجمة الشعر. وحذرته زوجته الرسامة الشهيرة ميتكا كراسوفيتش أن لا يستأجر أول شقة نعاينها بعدما انتهى من الترجمة وقد علمت أن نفخه الروح في قصائده باللغة الإنجليزية لا بد أن تكون قد تركته مبتهجا بما ينال من سداد حكمه على العقارات. وهو ما حدث بالضبط.
كنت كلما أزورهما في شقتهما الصغيرة في الشارع الرابع عشر أجد ميتكا تعايرني بطريقتي أنا وزوجها في العمل، والتي كانت تبدو في بعض الأحيان كوميدية. فقد كنت إذا سألت شالمان عن معنى بيت ما أو صورة، يقول "يبدو.." أو يقول "لا أعرف". كان المنطق العقلاني عدو قصائده التي كانت تتحرك في أي اتجاه تشاء.
توماش شالامون وحش.
توماش شالامون كوكب منطلق في الهواء.
يستلقي في جنح الليل، وفي جنح الليل يعوم.
وأنا والناس نراه بعين الدهشة
نرجو له السلامة،
قد يكون مذنَّباً.
قد يكون عقوبة من الآلهة،
قد يكون حدود العالم الصخرية.
والحق أن توماش شالامون Tomaž Šalamun هبة من الآلهة، رجل خافت الصوت ورائع الروح، وهبته، قصائده، سوف تظل بيننا لوقت طويل، وسوف تبقى.
* كرستوفر ميلر، شاعر أميركي، من أعماله كتاب "لا بقاء إلا للمسامير: مشاهد من حروب البلقان"، وديوان "المركب"، كما حرّر كتاب "أسئلة الحزن الأربعة: قصائد جديدة ومختارة من توماش شالامون".
ترجمة عن الإنجليزية: أحمد شافعي