تنتهي فعاليات "معرض القاهرة الدولي للكِتَاب" في دورته الخمسين، غداً الثلاثاء، بـ"انتصارٍ" بادٍ للمؤسسة الثقافية الرسمية. ففي حين عارضتْ قِطاعات واسعة من الوسط الثقافي رحيل الحَدَث عن دياره الثابتة منذ 1983 في أرض مَعَارِض مدينة نَصر، مُتنبّئة بِعُزُوف الجماهير عن "العُرس الأبهى للثقافة المصرية" فَور انتقاله إلى مِرفَق جديد على أحدث صيحة هو "مركز مصر للمعارض الدولية"، سَجَّلَت الدورة الحالية ارتفاعاً في عدد الزُوّار عن دورة العام الماضي، تُقَدِّر "هيئة الكتاب" المُنَظِّمَة للمعرض أنْ يَصل إلى خمسين في المائة مع انتهاء يوم الختام.
بعد زيارة الحَدَث في مَقَرّه الجديد، يُمكن القول إن الشيء الوحيد الذي لم يتَغَيّر في المعرض هو جمهوره. ففي حين كان الفضاء ونَسَق تنظيمه يُذكّران بـ"معرض أبوظبي الدولي للكتاب" و"مركز أبوظبي الوطني للمعارض" حيث يُعقَد - وهما النموذج الأقرب شبهاً بمعارض الكِتاب المعاصرة في فرانكفورت وغيرها من عواصم الغرب - بدا الجمهور مُغْرِقَاً في محلّيته النازعة إلى التمرّد على الترتيب وكسر تابو النظام. فمن التصميم على الصلاة في غير الأماكن المخصّصة لها، إلى محاولة التحايل على الوقوف في الصف والتململ من إجراءات التفتيش، لم يعدم المنظّمون روح المقاومة العشوائية التي طالما لازمت رواد معرض الكتاب في مصر.
الجديد أنّ المنظمين تمكنوا من احتواء تلك الروح والسيطرة عليها إلى حد كبير. اقتصرت الفعاليات على موائد مستديرة تجمع بين الجمهور والمتكلمين في الطابق العلوي، فيما بدت المساحة مُعدّة لوجِسْتِيّاً لتَفَقُّد وشراء الكتب ثم المغادرة، على عكس أرض معارض مدينة نصر، حيث يسهل على الزائر أن يَضَلّ طريقَه ويُهدِر وقته وجهده في عبور مساحات شاسعة لا تتخللها إلا خيام فارغة.
هنا كانت صالات وأجنحة العَرض مقسّمة بما يُيَسّر الوصول إلى الناشرين واكتشاف الكتب والمفاضلة بينها. ومع توفّر المواد الإرشادية، وقف شباب برداء مميز على البوابات يحمل تطبيقات تليفونية تمكّن من إرشادك إلى حيث تريد أن تكون..
لا معنى إذن للبكاء على أطلال أرض المعارض، ذلك المُخَيَّم مُترامي الأطراف المُتاخِم لطريق صلاح سالم، وإن كان الوصول إليه أَهْوَن؛ كَونَه على خطّ مِترو الأنفاق منذ بضع سنين. فأرض المعارض لم تَقْتَرِن فقط بالفَوْضَى والتزاحم وثقافة النُزهة العائلية في مُقابِل ثقافة المكتبات - حتى أن "معرض الكتاب" بات حَدَثاً شَعبياً أقرب إلى المولد منه إلى سوق النشر - وإنما أيضاً، ومنذ اغتيال فرج فودة خلال أسبوع من دفاعه عن العلمانية في مُناظَرَة عُقِدَت ضمن فعاليات المعرض في يونيو/حزيران 1992، اقترن بالحضور الإسلاموي المتشدّد والتَغَوُّل الأمني المُتَرَتّب عليه. وهو ما تعفينا منه تلقائياً المساحة الجديدة ونَسَقها التنظيمي.
إذا كانت القضية هي تَمَاهي السلطتين العسكرية والسياسية، ما يُؤدّي إلى احتكار الجيش للموارد وانفراد رئيس الجمهورية بالقرار، فلا علاقة لذلك بالحفاظ على "روح المعرض" أو خدمة "المواطن البسيط". ولعلّ وزيرة الثقافة المصرية، إيناس عبد الدايم، بالغت بالفعل حين عبّرت عن امتِنانها للرئيس لافتِتاحه المعرض، في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي، فليس في حضور رئيس الجمهورية تعبيرٌ خاص عن "اهتمام الدولة بالثقافة" كما قالت، وهو البروتوكول المعمول به طوال عقود، على الأقل في الدورات الفارقة. كما أن نجاح دورة اليوبيل الذهبي هو نجاح أول امتحان واسع النطاق لأحد المشاريع التي تبنّتها السلطة وجازفت اقتصادياً على الأقل في سبيل تنفيذها.
ما يعبّر عن اهتمام خاص ربما هو تدشين إمكانات المجتمع لتجاوز الفساد والفوضى وإنجاح حدث كبير، الأمر الذي أثبتت السلطات قدرتها على تحقيقه مرة بعد مرة، طالما أنها تتحرّك في مجال ضيّق وعلى مدى زمني خاطف. ولذلك في معرض الكتاب، كما في سواه، يمكن القول إن التغيّر دائماً يقتصر على المظهر. فيما يبقى الجوهر مجالاً مفتوحاً أوسع وأعمق بالضرورة من ملابسات زيارة واحدة، بما فيها من تنقّل بين مبنى مُخَصّص للناشرين المصريين وآخر للناشرين العرب، مروراً بمقاهٍ ومطاعم تقدّم حتى السوشي!
إلى أي مدى يمكن أن تنجح جهود استيراد المنطق الاستهلاكي لتداول المواد المقروءة عموماً وقد اضطلعت بها الثقافة الرسمية فضلاً عن التجارية؟ وماذا يعني تسليع الأدب في مجتمع يعوّقه التزمُّت والقمع ولا يسمح برواج ما يخرج على ثوابته الأخلاقية والعقائدية.. والسياسية؟
لعل ارتفاع إيجار مساحات العرض ومِن ثَمّ الزيادات المميتة في أسعار الكتب المستوردة بالذات، عائق ضخم في مواجهة كل ما يمكن أن تحققه الكتابة بعيداً عن المتعة الذهنية لفرد مثقف. لكن يبدو العائق الأكبر هو انقراض الناشر صاحب الدور التوجيهي، بغض النظر عن موقعه من السلطة، فيما يتصاعد الرِبْح مُجَرّداً من أي اعتبار، كقوة أبدية من شأنها أن تُسَيِّد التفاهة والمحسوبية والعزلة.. وتقلب الموازين.