"كولاج" ("دار الجزائر تقرأ"، 2018) عنوان العمل الروائي الثاني للكاتب الجزائري أحمد عبد الكريم (1965) بعد روايته الأولى "عتبات المتاهة"، وهو عنوان وإن كان يحيل إلى مرجعية تشكيلية، فهو بالمقابل يشي بنص يلتقي فيه الشعر والسرد والخط العربي والفن التشكيلي والتصوّف، وكل هذه جمعها المؤلّف القادم من بيئة صوفية (زاوية الهامل في الجنوب الجزائري).
منذ البداية، يكسر المؤلّف، وهو شاعر وأستاذ في مادة الرسم، أفق انتظار القارئ، بعيداً عن "الكليشيهات" التي يكتب بها الشعراء الروايات؛ إذ يقحمه في حبكة بوليسية بلغة بسيطة، ودون مقدّمات ليُدخله أجواء المتن، انطلاقاً من تحقيق في سرقة عملٍ فني منسوب إلى الخطّاط العربي القديم أبو علي بن مقلة من متحف آيا صوفيا في مدينة إسطنبول التركية.
جاء السرد بضمير الغائب، إلّا أنه التصق بالبطل، علي الجنوي، وهو فنّان تشكيلي وأستاذ بمدرسة الفنون الجميلة في مدينة سطيف، وكأن السارد كتب نصه الأوّل بضمير المتكلّم، لكنه حوّله إلى الغائب من أجل إضفاء بعض "الموضوعية" على الحبكة السردية.
البطل الآخر في هذا العمل هو الفنّان والخطّاط العربي القديم أبو علي بن مقلة، الذي يحضر ذكره كثيراً في هذا المتن، من خلال المخطوطة المسروقة، وإصدار الشرطة الدولية أمراً بالقبض على سارقها المفترَض. لكن هذا الحضور يبدو أقرب إلى الغياب، فبينما ينتظر القارئ بروز ملامحه ويومياته عبر الزمان، لا يحدث شيء من هذا القبيل، وتأخذ الأحداث مساراً مختلفاً تماماً.
وفي الوقت الذي يغيب ابن مقلة عن الأحداث، تظهر بعض ملامحه انطلاقاً من مادّة توثيقية معروفة في بعض كتب التاريخ التي تناولت سيرته، لكن النص لا يضيف إليها شيئاً، بل يوظّفها في ثنايا النص، بطريقة أقرب إلى التقريرية منها إلى حاجة سردية تخدم التطوُّر الدرامي للأحداث.
ورغم أن السارد ابتعد كثيراً عن لغة الشعر، ودخل في الأحداث منذ البداية، إلّا أنه سرعان ما يُقحم كثيراً من الجمل والفقرات الاعتراضية لتقديم مادة توثيقية لشرح ما لا يمكن شرحه سردياً، وهي المادة المتوفّرة في أية موسوعة خارجية بعيداً عن لغة الرواية التي تتطلّب قدراً من التكثيف والصرامة.
ومثلما جاء في عنوان الرواية، ينجح المؤلّف في إيجاد توليفة تجمع كثيراً من المواضيع الفنية والروحية والسياسية في آن واحد، من خلال البطل، الفنان والصحافي الذي جاء من خارج البلاد للتحقيق حول شخصية المتّهم بسرقة اللوحة، ثم يقودُنا التحقيق إلى الجنوب الجزائري.
ومن خلال شخصية المحقّق الصحافي، تفتح الرواية ولو بشكل محتشم بعض ملفّات الذاكرة الجزائرية المتعلّقة بالاحتلال الفرنسي ومن يُعرَفون بـ"الأقدام السوداء" (الأوروبيّون المولودون في الجزائر) ممّن يودّون العودة إليها، من أجل زيارة بيوتهم وبيوت ذويهم أيام الاحتلال وما يثير ذلك من زوابع إعلامية وسياسية.
ولا يقتصر تناول الشأن السياسي على استعادة الذاكرة الجزائرية، بل يتجاوزه إلى الشأن الدولي الإقليمي من خلال التنظيمات المسلّحة مثل "القاعدة"، من خلال وثيقة معاهدة بين الدولة العباسية والروم البيزنطيين المنسوبة إلى الخطّاط بن مقلة والتي قيل - في الرواية - إن التنظيم أراد سرقتها لإنهاء هدنة طويلة مع "الروم".
يأتي السارد على ذكر التشكيلي الجزائري الراحل محمد إيسياخم، ويقدّم معلومات بشأنه يُذكّر من خلالها بحادثة بتر يده في طفولته، ويربطها بيد ابن مقلة المبتورة، ويد والد سارق التحفة الفنية، وهو فنّان ومخرج سينمائي، ويربط كلّ ذلك ببطل رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، خالد بن طوبال، المأخوذة بدورها من رواية "رصيف الأزهار لم يعد يجيب" للجزائري الراحل مالك حداد.
وبعيداً عن التطوّر الدرامي للأحداث، يتقمّص السارد شخصية الصحافي أو الناقد الفني ويقول إن بطل "ذاكرة الجسد" هو نفسه إيسياخم، ولم تفعل أحلام مستغانمي إلّا اقتباس سيرته الحقيقية ودمجها مع شخصية رواية حداد.
كان من الممكن أن يكون بطل رواية "كولاج" أبتر اليد مثل ابن مقلة وإيسياخم وخالد بن طوبال، لكن البتر في هذا النص أصاب والد سارق التحفة ولا ندري سبب هذا الانزياح، هل هو لدواع فنية أم أراد الكاتب من خلاله الابتعاد عن تهمة الاقتباس من رواية "ذاكرة الجسد"؟