بمناسبة الاحتفاء بمئوية مدرسة الفن الألمانية الشهيرة باسم "الباوهاوس" (1919 - 1933)، الذي تقيمه عدّة مراكز فنية في مختلف العواصم، سُلّطت الأضواء مجدّداً على أسماء أشهر الفنانين الذي عملوا أساتذةً فيها؛ من أمثال الروسي فاسيلي كاندينسكي، والسويسري بول كلي، والهنغاري لازلو موهولي - ناغي، والأميركي ليونيل فايننغر، والذين ارتبطت أعمالهم بما أشاعته من قيم، كما لُفتت الأنظار إلى الهدف المركزي لهذه المدرسة الذي نجحت في تحويله إلى نهج فني عام على صعيد العالم، وهو إيجاد وحدة جامعة بين الفنون التطبيقية والمعمارية والتشكيلية، وكان هذا يعني إعادة تصوّر عالم مادي يعكس وحدة كل الفنون استجابة لحداثة الحياة المتسارعة.
يمكن الآن تلخيص نتائج هذه الفكرة التي أطلقتها المدرسة التي يعني اسمها حرفياً "بيت البناء" بالقول إنها جعلت الأكثر حداثة هو الأكثر بساطة، وليس الأكثر تعقيداً وغموضاً كما قد يتبادر إلى الذهن حين تُذكَر كلمة "حداثة"، وخاصة في الثقافة العربية. يتجلّى هذا في بساطة التصميم الخالية من أي زخرف، وفي الإيجاز والاختزال، والتجريد الذي كان يعني، وما زال يعني في أبسط تعريف له، الاستغناء عن كل ما لا لزوم له في أي عمل فني، سواء كان معماراً أو قطعة أثاث أو آنية طعام أو لوحة تشكيلية.
أَنشأ هذه المدرسة في مدينة فايمار المعماري الألماني فالتر غروبيوس، إلا أنها لم تضم في سنواتها الأولى قسماً خاصاً بالعمارة. كانت الفكرة المؤسسة هي إبداع عمل فني "شامل" يتركّب من كل الفنون، بما في ذلك فن العمارة، في نهاية المطاف. ولاحقاً، أصبح أسلوب "الباوهاوس" أكثر التيارات تأثيراً في عدة مجالات؛ في فن التصميم المعاصر والعمارة الحديثة والفن التشكيلي. وامتلكت المدرسة تأثيراً عميقاً على التطورات اللاحقة التي طرأت على الفنون البصرية والمعمارية والغرافيكية وتصاميم البيوت من الداخل، والتصاميم الصناعية، والطباعة.
تنقلت المدرسة وظهرت تباعاً في ثلاث مدن ألمانية هي فايمار من 1919 إلى عام 1925، وداساو بين العامين 1925 و1932، وبرلين من 1932 إلى 1933. وأشرف على إدارتها بالتتابع أيضاً ثلاثة معماريّين هم، إضافةً إلى غروبيوس، غروبيوسو هانسماير، ولودفيغ مايز، وكان هذا الأخير مديرها حين أغلقت بإرادة قيادتها بعد تزايد ضغوط النظام النازي عليها واتهامها بأنها مركز ثقافي شيوعي، إلّا أن موظفيها وأساتذتها واصلوا على الرغم من إغلاقها نشر مفاهيمها ومثلها وهم يغادرون ألمانيا ويهاجرون إلى مختلف بلدان العالم.
ويحفل تاريخها، بين سنة التأسيس وسنة الإغلاق، أي خلال الأربعة عشر عاماً التي أنجزت فيها ما سيظلّ علامات فارقة في عالم الفنون حتى اليوم، بمتغيّرات شملت المكان والقيادة، نجم عنها انتقال مستمر وتحوّل في التركيز والتقانة والتعاليم والسياسة التعليمية. ومثال ذلك، توقف عمل قسم الفخاريات مع انتقال المدرسة من فايمار إلى داساو، مع أن الفخاريات كانت تشكل مورداً مالياً مهماً. والمثل الآخر كان ما قام به لودفيغ مايز حين تسلم إدارتها في عام 1930، حين حوّلها إلى مدرسة خاصة، ولم يعد يسمح لأي شخص من أتباع هانس ماير بالحضور فيها.
على أن الظاهرة الأكثر أهمية التي رافقت ظهور "الباوهاوس" هي نزعتها الحداثية المتميزة، بكونها حداثة بنّاءة ومعنية بجعل الفن في متناول الجميع، أي موضع تداول في الحياة اليومية. وترافقت هذه النهضة الحداثية مع قيام جمهورية فايمار بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. فمع قيام هذه الجمهورية أتيحت لنوع من روح تحررية مستجدة فرصة للبروز بما حملته من مساعٍ تجريبية راديكالية في كل الفنون كان النظام القديم يقمعها. بالإضافة إلى تأثر اليساريين الألمان بالتجارب الثقافية التي قامت بعد الثورة الروسية، مثل تجارب المدرسة البنائية.
ويعتقد بعض النقّاد أن هناك مبالغة في الإشارة إلى حجم هذه المؤثرات، على اعتبار أن غروبيوس لم يكن شريكاً في هذه الأفكار الراديكالية، وكان يردّد أن "الباوهاوس" غير سياسية. ولكن عظم المؤثرات كان واضحاً في عدة جوانب، ومن ذلك التأثير المهم البارز لفنان التصميم الإنكليزي من القرن التاسع عشر، وليم مورس، الذي نادى بواجب الفن في تلبية حاجات المجتمع، وأنه لا يجب أن يكون هناك تمييز بين الشكل والوظيفة في ما يتعلق بأي عمل فني. ولهذا السبب وجدنا أن أسلوب "الباوهاوس" الذي أصبح عالمياً، اتسم بغياب الزخرفة، والتناغم بين وظيفة الموضوع الفني، أو المبنى، وفن تصميمه.
وكل هذا مستمدّ أيضاً من الحركة الثقافية الحداثية التي ترجع أصولها إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر الحاضرة في ألمانيا قبل الحرب الأولى على الرغم من سيادة النزعة المحافظة. وبتأثير هذه الحركة، نشأت في ألمانيا قبل تأسيس "الباوهاوس" رابطة لفن التصميم، وكانت الكثير من القضايا موضع نقاش، مثل قضايا الفنون التطبيقية الأساسية، والإنتاج الواسع للأعمال الفنية، والعلاقة بين المنفعة والجمال، وأهداف الجمال العملية والشكلية في الأدوات المستخدمة في الحياة العملية. وهو ما تبلور في مناهج وتعاليم "الباوهاوس" وانتشر على صعيد عالمي وما زال يفعل فعله حتى اليوم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
وصولاً إلى بغداد
مع أنه اشتهر أكثر كمؤسّس لـ"الباوهاوس"، فإن فالتر غروبيوس (1883 - 1969) يُعدّ أحد روّاد الهندسة المعمارية الحديثة في ألمانيا، وأثّر على العمارة بوصفه معمارياً وأستاذاً. اعتمدت تصاميمه على الأشكال التكعيبية غير المتساوية، مستخدماً الحديد الصلب والزجاج. صمّم عدّة مبانٍ خارج ألمانيا؛ مثل اليونان والولايات المتّحدة والعراق؛ حيث صمّم جامعة بغداد التي لم يكتمل بناؤها إلّا بعد رحيله.