كلّ من يقرأ نيتشه يقع على مقال له أو شذرة هي الأقرب إليه من بين كل ما كتبه. وأغلب الظن أن كل من يقرأ مقاله الثاني من كتاب "جنيالولجيا الأخلاق" يجد قطعة تخصه كإنسان أو نتيجة لعصر الحداثة.
في المقال الذي يترجم فتحي المسكيني عنوانه بـ"الذنب، الضمير المعذب، وما جانس ذلك"، نعثر على مرآة لنا سكّان العصر الحديث، إننا ورثة تشريح الضمير وآلاف السنين من تعذيب الذات بفكرة "الله" ومحاولة مجاراتها ومداناتها والاقتراب المستحيل من المكتمل، تلك الفكرة التي أعلن الفيلسوف الألماني موتها، وكأنه بذلك يعلن أيضاً أن الفلسفة منذ أفلاطون كانت قطاراً يسير على السكة الخطأ.
في هذه القطعة من كتابه يمكن أن نطابق الفلسفة بالعالم، وأن نمد خطوطاً بين صورة الواقع وتطلع الفلسفة، ففيها يحاول نيتشه تفنيد كيف أن المعاناة ومن يعانيها يؤسسان معاً مفهوم "الذنب"، هذا الذي يعمل من أجل لحظة إنكار القوة والعيش بكثافة أو بشدّة، إذ يعتبر نيتشه أن التمييز الأخلاقي نتاج لإنكار القوة، بل إنه يأتي من محاولة الضعف تشويه القوة.
كتب نيتشه هذا الكتاب سنة 1887 بمحاذاة النشوة الألمانية، فبعد الانتصارات على الدنمارك والنمسا وفرنسا وتسيد اللغة الألمانية في أوروبا، كان ثمة مقدار ضخم من الشعور بتفوق القومية الألمانية والهتاف لولادة البلاد بشكلها الحديث، كل هذا كان يُشعر نيتشه بالقرف، بل واعتبر أن ألمانيا تعيش قمة انحدارها، فالفيلسوف الحداثي في هذه الحالة كان ضد الحداثة التي ستقود في نهاية الأمر إلى هيمنة الأخلاق البرجوازية في أوروبا، هذه الأخلاق التي تستبدل القوة وشدة العيش وصدقه بالشعور بالذنب وتأنيب الضمير.
لن تنهي المقال دون أن تتساءل مع نيتشه: كم من مرة رأينا بأم أعيننا ودفعنا كبشر من أثمان في سبيل تشييد فكرة "المثالي" على الأرض؟ وتمكين الأخلاق وهي ليست إلا تراكماً للسيطرة وإنكاراً للفطرة وكثافة الذات، كل هذه الأثمان إنما هي أعراض السقم الإنساني، وهو السقم الذي يجعلنا نصير جزءاً منسجماً مع الكل، ومقابل إصابتنا به نكافأ بأن نتعاقد على أن نصير أبناء هذا المجتمع أو ذاك، ذلك الدين أو ذاك، تلك الهوية أو هاتيك.
في مقال نيتشه هذا ثمة قلق أصيل من الترشيح (الفلترة)، ترشيح الطاقة والقوة التي قادتنا إلى أعلى القيم ومثالياتنا العليا التي هي في حقيقتها أعراض الخوف من العيش بشدة وصدق. وأننا إن تمكنا من اختراق هذه الحواجز والاشتراطات والعقود التي نبرمها مع الحياة من خلال هذه القيم، فإننا سنعطي أنفسنا فرصة العيش بملء ذواتنا، لا أن نعيش في العالم كمن يقترض شيئاً منه.