ليس أمراً شائعاً لدى كثير من المصريين أن يجري الحديث عن تأثير الثقافات التي دخلت مصر، حيث طمست بعضها أثر الحضارات التي سبقتها، وبالأخص التاريخ الفرعوني باعتباره الأقدم. هذه الندرة نلمسها في الأدب أيضاً، ولعلنا لا نعثر سوى على رواية "شوق المستهام" لـ سلوى بكر، حيث تضيء الآثار التدميرية للثقافات على بعضها البعض.
في محاضرته، يوم السبت الماضي، في "المركز الثقافي الفرنسي" في القاهرة، لم يوارب الأثري البلجيكي لوران بافيه حينما وصف التدخّل اللاحق في مناطق الأثر الفرعوني، سواء الرومانية أو القبطية أو العربية، بـ"الاحتلال" الثقافي، حينما استعرض النقوش اللاحقة التي عبثت بمثيلاتها الفرعونية في منطقة جبل القرنة أو "جبل الشيخ عبد القرنة"، وهي المنطقة المليئة بالمقابر الملكية وتوصف بـ"مقابر النبلاء" في مدينة الأقصر على الشاطئ الغربي من النيل.
بافيه الذي يحتل كرسي المصريات، في "جامعة بروكسل"، كان على رأس بعثة أثرية اهتمت بالبحث عن مقبرة أمنحتب، وقام باكتشافها عام 2009 كما اكتشفت عدداً من المقابر في الجزء الأوسط من جبل القرنة، غير أنه يكشف أن تلك المقابر المكتشفة لم تكن إلا صورة "كابوسية" مقارنة بالأصل.
تحدّث بافيه في محاضرته عما اكتشفه من عبث بعض الرهبان ممن عاشوا في بداية الحقبة القبطية في مصر، خصوصاً بالنقوش العارية للملكات والمغنيات الفرعونيات داخل المقابر، كما قاموا بنحت صلبان على رموز الآلهة الفرعونية، والحفر باللغة القبطية على أواني الغرانيت والخزف الموجودة في المقابر.
الصورة التي رسمها بافيه قريبة من الصورة التي أحالتنا إليها سلوى بكر في روايتها، عندما استخدم المسلمون أيضاً مع وصولهم إلى مصر أعمدة المعابد الفرعونية لبناء المساجد، فمسجد الفسطاط مشيّد على أعمدة معابد فرعونية بالأساس، كما قام المسلمون باستخدام البرديات الفرعونية التي احتوت على وصفات لعلاج الأوبئة والأمراض للتدفئة.
بافيه الذي يستنكر ما فعلته الحضارات اللاحقة بالأثر الفرعوني، يعترف أن الأكثر إثارة للصدمة هو حجم السرقات التي حدثت في تلك المقابر في العصر الحديث، حيث إن بصمات هذا العصر مختلفة وأكثر حدة، إذ اقتلعت الرسومات والنقوشات من على الحيطان بالآلات الحادة لبيعها بعد سرقتها، وهذا الأمر قد بدأ مع الحملة الفرنسية وتواصل بعدها.
يشير الأثري البلجيكي إلى أن ثمة مقابر أثرية لا يزال يسكن فوقها سكّان إلى الآن، مثل المنزل المقام على مقبرة الوزير راي، والتي يعيش فوقها أحد السكان المحليين ويرفض مغادرة منزله.
منطقة طيبة والتي يقع فيها جبل القرنة ارتكزت فيها مقابر الأسرة الثامنة عشرة وبعض المقابر للأسرة العشرين وبعض المعابد التذكارية للأسرتين، إلى جانب مقابر ترجع للفترة الرومانية، كما امتلأت أيضاً بالصوامع القبطية.
وبحسب بافيه فقد عاش الأقباط في تلك المنطقة واستوطنوا الدير البحري والمنطقة المخصّصة للملكة حتشبسوت، حيث تحوّلت المناطق القريبة للدير البحري إلى صومعات وكنائس مسيحية.
في حديث موجز له مع "العربي الجديد"، سألنا بافيه كيف يتم التعامل مع الآثار والنقوش القبطية داخل مقابر الفراعنة، فهي تعدّ آثاراً مهمة أيضاً، بحيث لا يمكن التعامل معها كأثر من الدرجة الثانية؟ يجيب الأثري البلجيكي بأن "الآثار القبطية ليس ثمة اهتمام بترميمها، لأننا لا نملك سوى أدوات ترميم الآثار الفرعونية، ونحن ننقّب عن هدف محدّد. لكن كل تلك الآثار التي ترجع للحقبة القبطية يتم التحفظ عليها وتسليمها إلى وزارة الآثار المصرية".
خلال أبحاثه وحفرياته، استطاع بافيه أيضاً اكتشاف أثر مهم وهو كتابات فرانجيه القبطي الذي عاش في مصر خلال الحقبة القبطية، وهي عبارة عن 850 من المراسلات على أحجار الخزف، وقد نُشرت تلك المراسلات بالفرنسية عام 2010 بعنوان "les ostraca coptes de la tt 29" "الأوستراكات القبطية في تي. تي 29" (المواقع الفرعونية لها كودات تعريف دولية).
كما عثر بافيه على أوراق بردي وجلود كان يستخدمها فرانجيه فى تأليف الكتب، وقد وجدت رسالة منه إلى أخيه توما يقول فيها "كتبت كتاباً له قيمة كبيرة على ألواح الذهب وسأقوم بإعادة كتابته على أوراق البردي وتجميعها بالجلد".
لعل منطقة جبل القرنة والمقابر الخاصة بالنبلاء، وعلى الأخص "مقبرة امنمحتب" لا تكشف فقط عن الجانب التدميري للثقافات على بعضها البعض، فهذا التدخل قد يعدّ من جانب آخر إضافة على ثقافة سابقة حتى ولو جاءت هذه الإضافات بشكل غير واع وتدميري، إلا أنه يكشف أيضاً أن هذه الثقافات كان لديها رموزها ورسائلها التي يمكن أن تُضاف في ما بعد إلى الأثريات أو أن تكون دليلاً إضافياً نحوها كما هو الحال مع رسائل فرانجيه، أما العصر الحديث فلم يجد ما يضيفه غير نهب تلك المقابر بشكل أعنف لبيعها بقلب بارد.