بعد سنواتٍ من الغياب عن النشر في بلده، يعود الكاتب والشاعر الجزائري، مصطفى بن فوضيل (1968)، بروايةٍ جديدة، صدرت مؤخّراً عن "منشورات البرزخ"، بعنوان "جسد الكتابة: حياة وموت الكاتب كريم فاطيمي 1968 - 2014". يُفسّر غيابه بالقول إنه يكتب بتروٍّ، مضيفاً، في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، أنه يفضّل الغياب على تقديم عملٍ غير مقنِع: "أحرص كثيراً على جماليات ومضمون الأعمال التي أُقدّمها. لذلك، لا يمكنني إصدار رواية كلّ سنة".
في هذا العمل الروائي، يستحضر بن فوضيل أوراقاً قديمة ومُلاحظات دوّنها في دفاتره خلال أحداث أكتوبر 1988 ثمّ "العشرية السوداء" (الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر في التسعينيات)، ليُوظّفها في عمل سردي؛ بحيث تتماهى مع أوراق كاتبٍ يُدعى كريم فاطيمي، تُقلّب أرملته أرشيفَه، فتكتشف وجوهاً لم تكُن تعرفها عنه. كان واضحاً أن الرجل، الذي عاش عقداً من الدم وآخر من الصمت، أخفى كثيراً من ماضيه.
اختار الكاتب أسلوباً متشظّياً ومتقطّعاً، تحضر فيه قصائده القديمة ورسومات طفلته الصغيرة، إلى جانب ملاحظات متفرّقةٍ متداخلة ومترابطة، بينما يتداول على رواية القصّة صوتان؛ هما: مونيا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى زوجُها الكاتب الراحل كريم فاطيمي، عبر ما دوّنه في أوراق.
ومن خلال هذين الصوتين، يضع بن فوضيل أمامَ القارئ واقع وهموم الكاتب في الجزائر، بدءاً بهواجسه الإبداعية، وصولاً إلى جريه وراء الفواتير نهاية كل شهر، في ديكور فوضوي يتأرجح فوق خيطٍ رفيع، دون أن يفقد توازنه.
يُفسّر بن فوضيل قالب روايته، التي تقترب من السيرة الذاتية، بتزامن كتابتها مع تقديمه عرضاً أدائياً بعنوان "مضادّ الكِتاب"، يرتكز على نصٍّ يتخاصم فيه كِتابٌ مع مؤلّفه، موضّحاً: "بإمكاني القول إن العرض، الذي جمع بين الأداء الفنّي والرواية، كان بمثابة صورةٍ مصغّرةٍ عن كواليس كتابة الرواية. وقد أضيفُ إليه مشاهد وتعبيراتٍ فنّيةً جديدةً بحسب الأصداء التي ستصلني من الرواية".
يتابع: "بكل الأشكال المُمكنة، أحاول إخراج الكتاب من الورق إلى الفضاء العام. لا أقول إن الورق سجنٌ للكتاب، لكنني، الآن، بإمكاني القراءة لأخلق مادة فنيّة يجتمع حولها الجمهور، فنشهد فعلاً وردّ فعل. بهذه الصيغة كتبتُ رواياتي، لتعيش خارج الإطار المُحدَّد لها".
يحضر هذا الاشتغال في جميع كتابات بن فوضيل الذي يُمكن اعتبار تجربته حالةً متمايزة عن السائد في الجزائر؛ هو الذي يسعى للتأسيس لكتابةٍ لا تُشبه سوى نفسها، من خلال تفكيك القوالب الجاهزة والتحرُّر من القواعد المُتعارف عليها؛ بحيث يشعر القارئ، كلّما فتح كتاباً يحمل توقيعه، بأنه داخل ورشة مُتحرّكة.
بدأت تجربة بن فوضيل مع الشعر، حين أصدر سنة 1993 مجموعةً بعنوان "في صحّة الجمهورية" أهداها لروح الكاتب الجزائري الذي اغتالته الجماعات المسلّحة، الطاهر جعّوط (1954 - 1993). بعد سبع سنواتٍ من ذلك، كتب روايته الأولى "زارْطا" (تعبيرٌ عامّي يعني هربَ أو تغيّب). العمل الذي صدر في 2000 استوحاه من أجواء الخدمة العسكرية التي يقول إنه قرّر تأديتها "كي أفهم الجنون الذي أصاب الجزائر في بداية التسعينيات".
ويرجعُ صاحب "ثرثرات الوحيد" (2003) تواريه عن المشهد الثقافي في بلاده، رغم إنتاجه الأدبي الغزير في الشعر والرواية والقصّة والمسرح، إلى اعتقاده بأن "الإنتاج الأدبي والفكري والفني قد يتأثّر سلباً حين يكثر الحديث عنه، خصوصاً إذا كان محتواه لا يستحقّ تلك الضجّة".
بالنسبة إليه، فإن المبالغة في الترويج للأعمال الأدبية قد تُضخّم نصوصاً متواضعة، ما قد يصيب القارئ بصدمة: "أفضّل التريّث قليلاً، والمرور على محكّ النقد. وعندما أرى أن ردود فعل القرّاء والنقّاد تستدعي أن أتحدّث عن نفسي وعمّا أُنتجه، سأفعل".
وبنبرة تأسُّفٍ، يضيف: "كلّ أعمالي المسرحية غير متوفّرةٍ هنا في الجزائر. لهذا، أعتبر أنه من غير الأخلاقي أن أتحدّث عنها وهي غير متاحة للجمهور أصلاً". هل هي الرقابة؟ يُجيب محدّثنا بأنه يفضّل اعتبار الأمر نوعاً من "الرقابة الضمنية". يوضّح: "لا يمكنني القول إن مسرحياتي تتعرّض للمنع في الجزائر، لأن المنع قرارٌ إداري. لكن، على أرض الواقع، عُرضتُ أعمالي المسرحية في مدن عدّة حول العالم، لكنّني لم أستطع عرضها في بلدي، لأن مساحات التعبير أصلاً ضيّقة جدّاً، وأبواب المسارح غالباً ما تكون مغلقة".
هذا المنع غير المعلن مردّه، ربّما، إلى محتوى مسرحياته. يعلّق على ذلك: "هناك من يقول إن المواضيع التي أتناولها حسّاسة. أنجزتُ مسرحياتٍ تتحدّث عن من أحرقوا أنفسهم، وعن "الحرّاقة" وعائلاتهم، عن التعذيب أثناء وبعد الثورة".
وعلى ذكر الرقابة والمنع، يُعلّق صاحب "زيزي في المترو" (2004) على حالة الجدل والاستقطاب التي يثيرها بعض الكتّاب الجزائريّين، بالقول إن التعاطي مع مواضيع مثيرة للجدل أمرٌ وارد، مضيفاً: "عشتُ هذه التجربة غير ما مرّة؛ إذ وجدتُ نفسي محلَّ جدلٍ كبير في الشارقة سنة 2011، بسبب عملٍ بعنوان "ليس مهمّاً - كتابات متوحّشة"، وهو عرضٌ أدائي يجسّد مواجهةً في كرة القدم، بين ثلاثة وعشرين مجسّماً بشرياً من دون رؤوس، طُبعت على ألبستها فقرات من رواياتي ومسرحياتي؛ فقد أثار العرض حفيظة الجمهور، واتُّهمت بالإساءة للإسلام. مُنع العمل، ثمّ أُقيل مدير "بينالي الشارقة للفنون"".
يضرب المتحدّث مثالاً آخر يتعلّق بالجدل الذي أثارته مشاركته في "حركة بركات" التي نظّمت مظاهراتٍ عديدةً رفضاً لترشّح الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة سنة 2014: "لامني البعض لأنني تحوّلت، حسب قولهم، إلى مناضل وسياسي بدل أن أبقى كاتباً فقط. ما أريد قوله، بهذين المثالين، هو أنه من الصعوبة بمكان تجنُّب الجدل في بعض الأحيان، فبإمكانك أن تقع فيه دون أن تبحث عنه بالضرورة".
قبل أيّام، مرّت خمسون سنةً على ميلاده، دون أن يركُن إلى مكانٍ واحد. هكذا، يواصل مصطفى بن فوضيل التنقّل بين القرى النائية في الجزائر لكتابة ريبورتاجاته الصحافية، وبين عواصم العالم لقراءة الشعر أو تقديم عروضه الأدائية. "أحب المشي"، يُعلّق صاحب "الرجل الذي أراد تغيير العالم عند الثامنة إلّا ربع" (2006) مبتسماً، قبل أن يعود إلى كتابته التي يستمرّ في التلاعب فيها بين حياته الشخصية وحياة شخوصها، لتتضاءل الحدود الفاصلة بينهما عملاً بعد آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كوكتيل كافكاوي
إضافةً إلى عمله في الصحافة، يكتب بن فوضيل (مواليد غليزان سنة 1968) في الشعر والرواية والقصة والمسرح؛ حيثُ صدر له قرابة ثلاثين كتاباً بالفرنسية إلى جانب عشرة كتب مشتركة. من أعماله في الرواية: "ثرثرات الوحيد" (2003)، و"أركيولوجيا سديم العشق" (2007)، وفي القصّة: "الرجل الذي أراد تغيير العالم عند الثامنة إلّا ربع" (2006)، وفي الشعر: "كوكتيل كافكاوي" (2018)، وفي المسرح: "وجهة نظر الموت" (2013).