ما بين التوثيق لشخصية إشكالية والتوثيق لمدينة، خطٌّ رفيع عبَره الفنّان اللبناني صلاح صولي (1962)، المقيم منذ ثمانينيات القرن الماضي في برلين. ففي معرضه، الذي يتواصل في "غاليري أجيال" في بيروت حتى 25 من الشهر الجاري، يُسلّط الضوء، كما يكشف العنوان، على "الحيوات السبع لـ م. سعيد".
هكذا، يذهب بنا في اتجاهات عدّة خلال عملية حفر في ذاكرة شخص؛ حيث يصل إلى ما قبل 1958، ومن ثمَّ يعود بنا إلى الزمن الحالي، جامعاً بين حالات متناقضة: القسوة والحنان، الشجاعة والوصولية، الإيمان والعبثية. ومن خلالها، نكتشف سيرة مدينة تحمل، مثل شخصيّاتها، الكثير من التناقضات وتتعايش معها.
م. سعيد، الذي يظهر اسمه في عنوان المعرض (وهو مستوحىً من اسم بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صالح)، كان قد حارب لأكثر من نصف قرن من عمره "طواحين الهواء". ومن خلال المعرض، نعرف أن خياراته الحياتية تعدّدت بحيث لم يعد ممكناً أن نحصره في توصيف، وسلوكاته شهدت أنماطاً يصعب حصرها، حتّى يصعب على المرء اتّخاذ موقفٍ إيجابي أو سلبي منه. هذه التجربة يُؤرّخها صولي بالصور والطباعة والفيديو آرت والتجهيز.
ذلك الشاب، الذي فاز ببطولات عدّة في رياضة كمال الأجسام، خرج ثائراً عام 1958 في بيروت، ولم يكُن عمره يتجاوز ستّ عشرة سنة، ثمّ ما لبث أن قفز إلى الجهة المناقضة؛ حين أضحى مرافقاً لرئيس الحكومة الأسبق رشيد الصلح. بعد ذلك، امتهن م. سعيد تجارة السلاح إبان الحرب الأهلية اللبنانية، ثم، وفي قفزة غريبة أخرى، تفرّغ لإنتاج الأفلام السينمائية. وهو، بحسب ما يذكر صولي، ذو تجربة رائدة في هذا المجال، لولاها لما كان هناك إنتاج سينمائي لبناني خلال تلك الحرب.
يشير الفنّان اللبناني، أيضاً، ضمن سيرة هذه الشخصية، إلى تكريم وزارة السياحة اللبنانية لـ م. سعيد على مجهوده في مجال الإنتاج السينمائي عام 1983. بعد سنوات، ومع صدور قانون العفو العامّ في لبنان، اعتزل الرجل نشاطه الفنّي، مكتفياً بإدارة مقهى في بيروت.
هذه التوجّهات الحياتية التي تبدو محكومة بمزاجية خاصّة، قد لا تكون سوى عيّنة من حالة عامّة من البحث عن دور في الحياة، وهو ما يبحث عن إبرازه صولي في تجهيزات المعرض، فيُحوّل النقاط التي تضعنا فيها سيرة م. سعيد إلى أرشيف كامل لمرحلة ممتدّة على أكثر من نصف قرن، يتفاعل فيها أناس كثيرون عاينوا وعايشوا بيروت وتحوّلاتها التي لا تتوقّف. فكلّما صدّقنا أن المعرض مخصّص لشخصية بعينها - كما يظهر في العنوان على الأقلّ - يلفتنا صولي إلى أن كل ما في هذه الشخصية من تناقضات وسلبيات وإيجابيات، إنما هي عناصر تتجاوز الفرد. إنها في المحصّلة جيل كامل شهد اضطرابات السياسة والمجتمع في بلاده، ومن ثمّ انعكست هذه العوامل على حياة كل فرد وعجنتها.
هكذا، يُدخلنا المعرض في متاهات بصرية وأُخرى سردية ينقلها صولي من خلال توليفة توثيقية بمشاريع تجهيزية وفيديوهات تراوح مدّتها ما بين خمس إلى سبع دقائق، إضافة إلى صورٍ لدور سينما كانت ناشطة في الماضي وباتت مهجورة في أيّامنا هذه.
هذا المعرض، ومثل مشاريع فنّية سابقة قدّمها صولي، ينقل لنا هاجساً راسخاً لديه في تجاوز الأزمنة، وضخّها من جديد مُقَولبة في أعمال فنّية متعدّدة المحامل والخامات. ضمن ذلك، تظهر رؤيته لبيروت الحرب التي نشأ فيها، والبحث داخلها عن السلم المنشود.
لا يكتفي الفنّان اللبناني بتوثيق الماضي. وهنا تكمن لعبته؛ إذ إنّه، في كل مرّة، ينجح في استدراج الحاضر من خلاله ليُوقِع المُشاهد في حيّزٍ من الوعي المتلاعب بتأويلات بصرية وذهنية لعناصر يبثّها هناك وهناك، ومن أبرزها المونولوغات التي تظهر في الفيديوهات التي اختارها، وتلخّص الكثير من الصراعات الداخلية، ومن ورائها صراعات المدينة والحياة بشكل عام.