لدى الشاعر الروسي جوزيف برودسكي (1940-1996) مقال بعنوان "في الشرط الذي نسميه المنفى"، يقول فيه "إن المنفى الحديث قد يكون على نحو مثير للسخرية أشبه بالعودة إلى البيت"، من حيث إنه سبق ذلك بتصوّر عن أن البيت هو حيث تركت الاستبداد ووجدت الحرية.
رغم ذلك لم يكن المنفي ممتناً لمنفاه، في الحقيقة إن أميركا تظهر في قصائد الشاعر الروسي مكاناً نائياً لا يعيش فيه أو كموضع مقفر، يتركه الناس بين الأبنية الكئيبة ووجوه الساعات وتماثيل تمجّد الانتصار والحرب، صحيح أن برودسكي أصبح أميركياً منذ أن غادر بلاده عام 1972 وحتى رحيله عام 1996، لكنه لم يتوقف عن أن يكون شاعراً روسياً حتى وهو يكتب بالإنكليزية.
يعتبر برودسكي في مقال آخر، أن الشاعر هو أقرب ما يكون إلى وسيط روحي بين لغته وبين وجودها الميتافيزيقي، وأن هذه العلاقة تمثلها اللغة الروسية في حياته وليس الإنكليزية التي بدأ الكتابة بها حين انتقل إلى أميركا.
الباحثة إيلينا ديموف تذكر في دراسة بعنوان "مجاز الحديقة في الشعر المبكر لبرودسكي" أن التفكير في العلاقة بين المنفى واللغة ظهر عنده في وقت مبكر، وتحدد ذلك بعام 1960 حين نشر قصيدة "الحديقة" التي استخدمها كمجاز عن اللغة، في القصيدة يضطر الشاعر إلى ترك حديقته في صراع أدرك فيه أن الطريقة الوحيدة للنجاة هي مغادرتها، ولكن ذلك يعني أيضاً الانفصال المؤلم عن الحديقة/اللغة.
في قصيدته "مصدر" التي ضمتها مجموعته "وهلم جرا" (So forth)، يكتب "أعزائي المتوحشين، رغم أنني لم أتقن لسانكم أبداً، ها أنذا حر من الضمائر والمصادر، تعلّمت أن أخبز السمك ملفوفاً بورق النخيل، وأن أحب سيقان السلاحف النيئة بمذاق البطء الذي لها. من جهة التذوّق، عليّ أن أعترف؛ هذه السنوات، منذ أن جرفني الشاطئ إلى هنا كانت رحلة مستمرة، وفي النهاية أنا لا أعرف أين أنا. رغم كل شيء، لا يزال المرء يشطب الأيام فقط ما دام لا أحد يقلّد أحداً. بينما أنتم بدأتم تقليدي، حتى قبل أن أراكم". إنه لا يعرف أين هو، لأنه في بلاد يقلّد فيها الجميع بعضهم بعضاً؛ حتى لا يعود المرء يعرف من هو حقاً؛ يلفت الكاتب والناقد جيمي أولسن في دراسة بعنوان "تضاريس المنفى: برودسكي كشاعر أميركي".
في مقال ظهر في "فلادلفيا أنكواريار" يجري تشبيه الشاعر الأوكراني إيليا كامينسكي ببرودسكي، لكن أرضية المقارنة تبدو غير كافية، بل إن تمثلات الاختلاف بينهما أكثر من القرب، شعرياً.
نعم كلاهما أتى من الاتحاد السوفييتي سابقاً مهاجراً أو منفياً إلى أميركا، لكن إذا وقفنا على علاقة كامينسكي باللغة وقارنها بعلاقة برودسكي ستكون الاختلافات أعمق من التشابهات، لم يشعر الأخير بالقرب الذي وجده الأول في الإنكليزية التي أحب فيها أنها مجهولة لعائلته، لتتحول إلى غرفة لا مرئية بالنسبة إليهم يمكنه أن يتجوّل عارياً فيها وأن يكشف حميميتهم دون أن يدركوا ذلك. ربما يكون مرد هذا الفرق في العمر الذي غادر فيه كل شاعر وطنه الأم، ففي حين ترك برودسكي روسيا وهو ابن 32 سنة، هاجر كامينسكي في عمر 16 عاماً.
وفي حين أصبحت أميركا هي العالم الذي يكتب عنه برودسكي، بل أصبح المنفى عموماً موضوعه الأثير، ولم يعد هذا يمثل الجغرافيا بالنسبة إليه، حين بات هو نفسه المنفى، نجد أن المكان المهيمن على قصيدة كامينسكي المنشورة هنا على سبيل المثال هو أوكرانيا، بل أوديسا المدينة التي ولد فيها، بل الحي الذي عاش فيه.
الماضي في حالة كامينسكي أيضاً هو شكل من المنفى، بل إنه يعيش المنفى مضاعفاً حيث إنه عالق في المكان القديم ويتحدث عنه بلغة أجنبية كما لو أنه يحوّل اللغة إلى وسيلة للخلاص، هل يريد كامينسكي أن يتمم المنفى بالاغتراب عن ذاته؟ ربما في هذا يقيم الشاعران في نفس البيت/المنفى.