الجبال تتّكئ على بعضها
وفي الأسفل سعيُ الحيوانات الحثيث وصوت الحشرات الصغيرة
وصدى تأخذه أينما حلّت
هناك براعم زهرية تنفلت على الربيع فيما يغذّي نهرٌ قديم الكائنات،
وقبل الإياب تحمل القرويّة اليافعة صُرّتها وتُرخي الملاءة على خصرها وترحل
وفي الأفق تنزلق الشمس المسحورة...
مضت سنوات على الحكاية وصار الصبي شابّاً
وفي أحد الأيام عاد من عمله باكراً، عابساً صامتاً
ومع أول الفجر حيث الشمس ما زالت نائمة
قام من فراشه، فتح النافذة وطار مع سرب البجع.
■ ■ ■
البحّار
نهض في منتصف الليل وشرع يبكي، يشهق ويبكي
كل شيء على ظهر الباخرة كان هامداً - مُستقلاً كوجه الماء
عَارك أحداثاً عظيمة، قَتل أناساً
إن البحّار يقسو عندما تأتي الأهوال دفعة واحدة،
كان قطعة من الباخرة
ورغم ضآلة الرحمة، كانت دموعه المذروفة تضيف شيئاً عميقاً للبحر.
■ ■ ■
المدينة المتعبة
بين ثلاثة أبنية مهجورة وعليها آثار دمار
خرجت النكتة الجميلة وضحكوا
وظلّوا يضحكون حتى الصباح وحتى انتهت الدنيا وجاءت الجنة
كانت جميلة فيها برك صغيرة وصبيّة تلهو
وفيها بحيرة كبيرة ممتلئة بالبط والنساء
وشبّان مشاكسون، وفيها مغفلون، ومرتزقة،
منذ ذلك اليوم لم يتوقّف الضحك
فقد أدركوا جميعاً أن السعادة شيء منطقي.
■ ■ ■
السفينة العاشقة
كُنّا على السفينة وكانت أول مرّة للحب
دفعنا بعضنا وتشبّثنا وارتمينا، ونقبّل ونقبّل
يا لنا من حيوانيين أليفين جميلين.
أتذكرين، ثمّة من يرانا
البحّارة يتوقون إليك
إنك المرأة الوحيدة وهم جياع
ونقبّل بعضنا ونقع على كومة القش المتّسخة
وبدأت السماء تمطر.
في الماضي أحببت ساقيكِ والاّن أعشق حضنكِ
آه السحر لا يزول إنه الميناء
هيّا يا عجوزي تماسكي وجدنا ميناءً والسفن فيه كثيرة
تحمّلي أيتها العجوز بضع خطوات وحسب
إن الوصول إليها يشعرني بالسنين الفائتة
الرائحة قديمة والجو بارد ولكنه شهيّ،
النور النور، ها هو الفانوس
اجلسي على السرير كي نبدأ صراعنا الحميم
ومعركتنا السخيفة الصغيرة...
إذاً سأفتح ذراعي
فلتقرع الأجراس
سأغرق في حبكّ أيتها العجوز
أيتها المرأة على ظهر السفينة...
■ ■ ■
عازفة البيانو
في الصالة الفاخرة
بدت دهشتها عظيمة، وروبها أبيض، وشعرها كان كوجه الذهب
نغماتها تستشعر الجهود العظيمة وتحترم الصمت
أناملها تنادي الأرواح وتضع على أضرحتها الآس
فيما الأضواء من حولنا تحثنا على الحنان الحبيب واللحظات العتيقة جداً جداً.
■ ■ ■
العاشقة
سيرحل غداً
ذاك الذي سحر عينيّ وأذاب قلبي
قلبي الذي يتشوّف الفرار كعصفور في قفص
سيرحل غداً وسترحل معه لحظات أبدية
ولكن لا؟ الدنيا ملأى بالأمل والحنان
وحبي وحناني يفيضان ولن يضيعا سدى.
ولكن ماذا عن شفتيّ؟
إنهما ترتجفان أيضاً.
■ ■ ■
الزيارة
إنني احتمال
بكل ما فيّ من أفكار ورغبات
من معتقدات أكنّها لهذا العالم
بكل ما هو راسخ في وجداني
هو كذلك
نحن أشكال خاطفة
ولكن ما سرّ الضوء الذي أراه في حلم جميل؟
■ ■ ■
الحفل
إنها حلوة رقيقة وممشوقة القوام
بشرتها ناعمة بيضاء كزهرة الثلج
أما أنا، لستُ ثرية ولم أذهب إلى الجامعة
وعيناي الخضراوان لا تجذبان إلا المارقين الجوّالين
ولا يُغري جسدي الجميل إلا المسنّين الأغنياء
ومع هذا سأرتدي ثوباً رائعاً في عُرسها لأبدو بفتنتها وألفت نظر الشباب
وعند السهرة رقص الجميع من أجل الفرح
وباركت فتاتنا للعروس الجميلة والتقت النظرات،
تعانقتا وغرغر الدمع في العيون المتوهجة.
■ ■ ■
نشأة وبداية
قبل سنوات ضوئية لم تكن كائنات ولا إله
والسكون صخر، أرض ممدودة وفجوات وعرش الكون شاغر،
وبعدها تشكّلت عناصر ومخلوقات
وغزوات بدأت تعم وجه اليمّ، وفي الحرش سكنت قبائل
عينها على الغصن والعاج الثمين
وفي يوم جنحت الأرض إلى شكلها الحالي وهيمنت حضارة
عشعشت في أدغال موغلة وبين حبال أغصان مرخية
فيما الطبيعة فجّة والأجسام عارية وصفير الليل هائم
- عشعشت صرخة الرعاة الحجرية.
■ ■ ■
الشاعر
أنا الشاعر... قتلت الكثير من الكائنات... وأحرقت عشيرة نمل بينما كنت ألهو وهذا حصل،
واليوم لم يعد يقسو قلبي
وصار تخيّلي عذباً أكثر من أي يومٍ مضى.
هذا الصباح حيوانات الحديقة سعيدة ومشرقة بعد أيام شتاء،
وقفتُ أمام رتل الغزلان بينما يفصل بيننا السياج
حدّقنا في بعضنا البعض وكنّا قريبين - كان الصمت آسراً وعميقاً وأبديّ الوقع،
يا للهول إني أعرف هذه العيون الواسعة، وفجأة،
برعشة مني تفرّقت خائفة، وفيما هي تمضي
التفتت خلفَها:
اهربوا من صاحب النظرات الثابتة
هذا هو من أحرق عشيرة النمل منذ عشرين عاماً
هذا هو من أحرقها -
أحرقها بينما الشهوة اللزجة تفّر من غريزته.
■ ■ ■
الثمانينيات
تسريحة شعرك تُذكّرني بطابع الثمانينيات
حيث أنك مستيقظة من النوم باكراً
تمشين بثوبك الأبيض الطويل
وحيث أنك أُنثى لا حداثة فيكِ.
■ ■ ■
فتاة المرتفعات
كانت الأرض في ظلام دامس
وليس من شجرة تميس أو عليل يُذكر
انطلقَت بمجهود كالمعجزة، انطلقت الحركة وغربلت المناخ
وأصبح الكون متآلفاً ومعقولاً وأطلّت الصبيّة - ومن على التلّة الخضراء، عند ضوء المساء اللطيف،
وقَفت أمام منزلها الخشبي، حيث روعة المنظر تسبّب النعاس، ووهن الشفق يثير الحزن، والبراءة لا يُعلى عليها
وقَفت كعرق البلح، تتذكّر أشكال طفولتها
ومُدناً لم تزرها، وحرباً أرقّت المرتفعات، ووجوهاً لا ترتيب لها تذكرتها وهي تذوب
وبشيء من الفزع اتّسعت عيناها وتخيّلت الأرض القديمة
بسكونها الأبدي ولونها الواحد اللانهائي
حيث البسيطة صخرة متعرّجة ممدودة لا ريح لها ولا إنجاز،
ولكن الرائحة الخفيفة الشهية كانت قد أزُفت، وفوّحت أنفها وأعادتها إلى المرح الصامت
إلى ثغاء الحملان، تلك الرائحة التي لن تزول
أرجعتها حتماً إلى المرتفع والكوخ والبراءة.
■ ■ ■
كان أكبر
كان أكبر عُمراً
ويداً بيد سِرنا ليلاً في الطريق الموحل المليء بالحفر
نبتعد بحذر عنها ونحتمي تحت أسقف المنازل من زخ المطر
ليته يلقى من يتكئ عليه دائماً
لكن الملل والاستياء دخلا قلبينا
وفجأة جفلنا، ومن قلب العتمة نظرنا لبعضنا ولمعت أعيننا ثم مشينا مسرِعَين وسط المطر لا يهمنا شيء،
وكقردَين بين الشجر
صِرنا نقفز من فوق الفجوات مبَللين بالماء.
■ ■ ■
أيها العصفور
لست على طبيعتك أيها العصفور
تبدو صامتاً أكثر من أي يوم
حتى أن عينيك مختلفتان
ولكنك تبدو أيضاً مثيراً وفاتناً
لكأنك عازف انتشى وقد أنهى مقطوعة جميلة
■ ■ ■
حكايا العيون
انظري إلى الشابّة هناك، وكأنها تبرّعت بعينيها،
إذ لا ضوء فيهما، لا حياة
ومع أنها شامخة ومشرقة في لوحة البهو الرئيسية
إلا أنها ترقص شاحبة الليلة،
وبعد أيام سألوا عنها وقالوا غادرت المنزل
خرجت صامتة بطيئة شعرها منسدل على كتفيها
خرجت وروبها الأبيض يُظهرها كظلّ امرأة في طريقها للقبر.
وفي منزل قريب ظهرت واحدة من البنات المتعيّشات
غريب! إنها تشبه الفتاة ذات الروب الأبيض
الفتاة الشاحبة!
بل لها نفس عينيها الإنسانيتين.
* كاتب سوري