يحاول الكاتب والمؤرخ السوري عبد الله حنّا في كتابه "المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية (1923 – 1946)" الصادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" أن يقف على عوامل نشوء هذه الحركة الغيبية ودراسة طبيعة المحيط الذي ظهرت فيه.
يتقصّى حنا (1932) الأبعاد الديموغرافية والسياسية والاجتماعية للبيئة العلوية التي انتشرت في أوساطها الحركة المرشدية، والصراعات السياسية التي كانت تنمو في الريف العلوي المهمّش، نتيجة الانفتاح الطفيف الذي حصل إثر تشجيع الاحتلال الفرنسي الأقليات على المشاركة في الحكم، بهدف تقوية مشروع التقسيم الذي كان يخطّط له، مسلّطاً الضوء على حياة سليمان المرشد، المولود في ريف اللاذقية عام 1907، منذ بداية دعوته وحتى إعدامه عام 1946، والاختلافات مع الوجهاء العلويين والمشايخ الذين حاولوا ثنيه عن دعوته.
يعدّ الكتاب رائداً في مجاله؛ كون الكتب المتداولة قليلة عن الحركة؛ لأنّها باطنية غيبية، رغم إسهاب الصحافي البريطاني باتريك سيل عنها في كتابه "الأسد والصراع على الشرق الأوسط" (1988)، إلا أن نور المضيء مرشد، ابن سليمان، أصدر كتاباً بعنوان "لمحات حول المرشدية" (2007)، يعد من أبرز ما وُضع عنها؛ إذ يقدّم فيه صورة مصغرة حول كل ما يتعلق بالهوية المرشدية. لمن لا يعرف عن الحركة شيئاً، يُمكن أن يوجز له كتاب حنّا تاريخها وشيئاً من جوهرها، أما بالنسبة إلى المطلعين، فمعظم المعلومات الواردة عن الحركة معروفة.
صنّف حنّا كتابه بناءً على جولة ميدانية قام بها عام 1984، ومجموعة من المقابلات أجراها في أعوام 2004 و2005 و2007. كما يشير في مواضع أخرى إلى أنه لم يستطع التثبت من الحقائق؛ لأنه في المهجر. من هنا، يبدو أن هذه الدراسة لم تكن وافية بحثياً، ولم تنقل تفاصيل الحركة من الواقع، بل كان معظم الآراء مستنداً إلى المصادر والمراجع. مثلاً، يروي حنّا أنه عندما زار قرية شين، لم يكن يدري أن جزءاً من سكّانها مرشديون.
وردت في الكتاب أسماء قرى في محافظة اللاذقية، ولكن بعضها ذكر بشيء من عدم الدقة، مثل حميميم جاءت "حماميم" وقرفيص "قريفيص" والمزيرعة "مزيرعة" وستخيرس "ستخبرس"، والسقيلبية التابعة لمحافظة حماة جاءت "الصقيلبية"، ويذكُر أن بسنادا من ريف اللاذقية، والأصح أنها من ضواحيها.
ندرك الآن أنه لا يستطيع أن يجول ميدانياً للتأكد من تلك الأسماء ومن الواقع الحالي للحركة، لكن بما أنه قام بذلك مسبقاً، كان يجدر به أن يطّلع على الأسماء بشكل دقيق من مصادر أخرى متاحة. ربما يكون للطباعة دور في ذلك، فعبثت باسم أو اسمين، لكن خطأ ورد في مجموعة لا بأس منها.
في جانب آخر، يروي أنه كان هناك موسم معين لذبح البقر، يمتد منذ آخر كانون الأول/ ديسمبر إلى أول كانون الثاني/ يناير وهو "القوزلي"، والصواب أنه عيد رأس السنة الشمسية الذي يوافق ليلة 13-14 كانون الثاني، نظراً إلى اختلاف الطوائف الشرقية عن الغربية، والاسم مأخوذ من قزَل النار، أي أشعلها.
عوامل نشوء الحركة وتغلغلها في الريف العلوي تتداولها العامة، وتلخّصها بالفقر والمستوى الاجتماعي والثقافي السيئ الذي كان يرزح تحت وطأته السوريون من أبناء الطائفة العلوية، فتحوّل بعض الناس إليها. في هذا السياق، يشير المؤلِّف إلى أن أعداداً كبيرة من عشائر العمامرة والمهالبة والدراوسة، كانت من أوائل المنضمين إلى المرشدية، وأن الشعب الحيدري الغساني اعترف بالمرشد رئيساً له.
يحضر هنا تساؤل: لماذا هذه العشائر بالتحديد، والفقر كان ينهش أطراف المجتمع العلوي كافة؟ لا نجد إجابةً في كتاب حنّا عن هذا السؤال، إذ يذكر أنه لم تتح له دراسة الأسباب. كما أنّه لم يتطرّق إلى أي تفصيل يوضّح من هو الشعب الحيدري الغساني. فهو يصرّح بأن "أرشيفه حبيس الأدراج في دمشق"، وليس لديه معلومات عن انتشار الدعوة في شرق حمص، وإن كان ألمح إلى العوامل الاجتماعية والسياسية، لكن هذه العوامل وحدها لم تكن كافية للانضمام؛ لأنه ما كان ليخلّصهم من العوز والجور.
انضمام الناس إلى هذه الحركة الجديدة لم يكن اعتباطياً؛ إذ إنهم، من جهة، في حالة جهل وانعزال عن التيارات الخارجية، نتيجة سكناهم في الجبل وفرض العثمانيين حصاراً جائراً عليهم. ومن جهة أخرى، يؤمنون بالأولياء الصالحين، ويعتقدون بالمخلّص الذي سيأتي لينتشلهم من فقرهم وعذاباتهم، و"ليملأ الدنيا عدلاً بعدما مُلئت جوراً".
فقد دعت الحركة المرشدية إلى ما هو مقبول لدى الناس وشائع لديهم، وإلى ما يرونه خلاصهم، فرؤية الخضر والتبرّك به ليست حالة غريبة، إضافة إلى أنها أُيِّدت في ما بعد بمعجزات وبلمسات فرنسية (لم يأت على ذكرها وكان لها إسهام في ترسيخ الحركة)، وإن كان قد ألمح إلى أن الاحتلال استفاد من المرشد، وأن معارضيه قالوا إنه صنيعة الانتداب.
لم يدخل المرشد مدرسة قط، ولم يكن ذكياً ليبني مجده الخاص ويروّج آراءه عبر الدين، حتى إنّ أفكاره ظهرت نتيجة إصابته بمرض عصبي، حسب ما يذكر الباحث. لكن روايات أخرى، لم يتطرّق إليها، تقول إنه ذهب إلى الرعي، فسقط على رأسه وعاد يهذي بالدعوة، وينادي بالخضر.
انتشرت المرشدية في الجولان السوري، وهذا غريب لبعد المسافة عن الساحل، لكن حنا يورد في مقابلةٍ أجراها مع محافظ القنيطرة، عدنان طيلوني، أن المرشد زار الجولان مرّة واحدة. ويشير حنّا إلى قيام أحد شيوخ قرية الغجر في الجولان عام 1953، واسمه محمد حسين، بدعاية مرشدية، من دون أن يبحث الواقعة.
كذلك لم يشر الباحث إلى أسباب اختلاف اسم المرشد، ففي حين يسميه بـ سلمان، يذكر في الهوامش التي يستقي منها أنه سليمان، حتى إن المرشد وقّع رسالته إلى أهل قرية المضيق والسقيلبية بـ سليمان المرشد، وذكر حنّا أن اسمه في إضبارة محفوظة في وزارة الداخلية سليمان المرشد، من دون تفسير اختلاف التسمية.
لا يولي الكتاب أهمية كبيرة لتفاصيل حياة المرشد وجانبها الروحي والدَّعَوي. لكن، في المقابل، وضع العمل اللبنة الأولى للسير في طريق معرفة تفاصيل الحركة. هكذا، تبقى المرشدية حركة دينية اجتماعية إصلاحية يكتنفها الغموض، تنسب إليها الكثير من الأساطير، إن لم ينبرِ أحد من أبنائها ليكشف حقيقتها.
يدعو حنا إلى خروج الحركة إلى العلن، وأن لها الحق في الحياة؛ إذ هي حركة صارعت أقرانها واستطاعت أن تثبّت جذورها في محيطها، ولكن مع موجة التكفير الطاغية والعنيفة التي تجتاح المنطقة، هل يجرؤ مريدوها وعلماؤها على إعلانها؟